“نغوغي واثيونغو“، الكيني، هو واحد من أبرز أدباء إفريقيا اليوم، إلى جانب النيجيريين وولي شوينكا وتشنوا أتشيبي، وهو مرشح دائم لجائزة نوبل للآداب. تشهد كتاباته المختلفةوالمتنوعة، في الرواية والمسرح والنقد الأدبي، على انتصاره للقارة السمراء وإنسانها المستضعف وهوياتها المهمشة وثقافاتها المهملَة. في هذا الكتاب: “تفكيك استعمار العقل“، يدافع“واثيونغو“، بالتزام وشغف كبيرين، عن فكرة استعمال اللغات والأسماء الإفريقية في الفكر والأدب والسياسة وتخليص أشكال التعبير وأنماط الحياة من مخلفات الاستعمار، حتىتتفكك أنظمة الإمبريالية ويتحقق الاستقلال الكامل.
في صباح مبكر من صباحات سنة 1976، جاءت امرأة من قرية “كاميريثو” إلى بيتي، ودخلت في صلب الموضوع مباشرة: “نسمع أنك تعلمت كثيرا، وأنك تؤلف الكتب. لِمَ لا تقدمونأنت وآخرون شيئا مما تعلمتموه للقرية؟ لا نريد أن نحصل على ما تعلمتم برمته، وإنما على النزر القليل منه، وبعضا من وقتكم.” وأضافت قائلة إن هناك مركز شباب في القرية، باتآيلا للانهيار. إذ كان في حاجة إلى جهد جماعي يبعث فيه الحياة. فهل أرغب في تقديم المساعدة؟ قلت إنني سأفكر في الأمر. في تلك الأيام، كنت رئيس شعبة الأدب في جامعةنيروبي، لكني كنت أسكن قرب “كاميريثو“، في “ليمورو“، التي تبعد ثلاثين كيلومترا أو نحو ذلك عن العاصمة. وقد تعودت أن أذهب إلى نيروبي بالسيارة يوميا، ذهابا وإيابا، ما عداأيام الأحد. من هنا، كان يوم الأحد هو أفضل الأيام لضبطي في البيت. جاءت الأحد الثاني، ثم الثالث، فالرابع تباعا، تقدم الالتماس نفسه، وتعبر عنه عمليا بالكلمات نفسها. هكذاانضممت إلى آخرين فيما سمي لاحقا بـ“مركز جماعة كاميريثو التربوي والثقافي“.
II
“كاميريثو” واحدة من قرى عديدة في “ليمورو“، أقامتها في الأصل الإدارة الاستعمارية البريطانية في الخمسينيات كطريقة لقطع الصلة بين الشعب وحرب العصابات التي كانيشنها جيش الأرض والحرية الكيني، المعروف أيضا باسم “ماو ماو“. وظلت القرية، حتى بعد الاستقلال سنة 1963، خزانا لليد العاملة الرخيصة. ومع حلول سنة 1975، شملت“كاميريثو” وحدها ساكنة تصل إلى عشرة آلاف نسمة. وينقسم العمال الذين يسكنون “كاميريثو“، إما مستأجرين أو ملاكا، إلى ثلاث فئات واسعة. أولا، كان هناك أولئك الذينيعملون في شركة “باتا” المتعددة الجنسيات لصناعة الأحذية، وفي مصنع استثمارات النيل للأنابيب والبضائع البلاستيكية، وفي منشآت صغيرة لمعالجة الملح، وفي مطاحن الخشبوالذرة، ومرائب إصلاح الدراجات والسيارات– يمثلون جميعا جزءا من البروليتاريا الصناعية الناشئة. ثم هناك المستخدمون في الفنادق والمتاجر ومحطات البنزين وحافلات النقلوالعربات التي تجرها الحمير أو التي يدفعها الإنسان– وهم عمال تجارة وخدمات. أما الفئة الثالثة، فهي جزء من البروليتاريا الفلاحية؛ أولئك المستخدمون أساسا في مزارع وضيعاتالشاي والبن الكبرى التي كان يملكها مستوطنون استعماريون بريطانيون، لكن صارت الآن في حوزة قلة من الأثرياء الكينيين والشركات المتعددة الجنسيات، مثل “لونرو“. كما تضمهذه الفئة الذين يشتغلون عمالا موسميين في ضيعات من كل الأحجام.
لكن المزارعين هم الأغلبية. فهم يتألفون من المزارعين الأغنياء الذين يستخدمون أكثر من اليد العاملة العائلة؛ والمزارعين المتوسطين الذين يعتمدون على اليد العاملة العائلية وحدها؛والمزارعين الفقراء الذين يعملون في حقولهم الصغيرة، لكنهم يعملون كأجراء؛ وعدد المزارعين غير الملاك الذين يكترون الأراضي ويعملون كأجراء. ثمة بالطبع العديد من العاطلين،وعاهرات الوقت الجزئي والوقت الكامل، والمجرمين الصغار. أما النوع المتميز من سكان “كاميريثو“، فهم الأساتذة، والسكرتيرون، والمسؤولون الإداريون الصغار، وملاك الحاناتوالدكاكين الصغار، والحرفيون الأحرار، والنجارون، والموسيقيون، وتجار الأسواق، والتجار العرَضيون– أي البورجوازية الصغيرة. فيما يسكن أغلب ملاك الأراضي الأغنياء، والتجار،والمسؤولون الكبار في الشركات أو الإدارات، وقطاع كبير من المزراعين ملاك الأراضي، خارج القرية.
أشير إلى هذه الطبقات المختلفة، لأنها جميعها تقريبا ممثلة في “مركز جماعة كاميريثو التربوي والثقافي“. فعلى سبيل المثال، تألفت اللجنة المسيرة للمركز من مزارعين وعمالوأساتذة ورجل أعمال. أما نحن الذين ننتمي إلى الجامعة، فهم “كيماني” و“جيكاو” و“كبيرو كينيانجوي” و“نغوغي وا ميري” الذي أصبح لاحقا المدير المنسق لجميع أنشطتنا. لكنالمزارعين والعمال، بما في ذلك العاطلين، كانوا العمود الفقري في المركز الذي انطلق سنة 1976.
لقد تحدثت عن أصول المركز وأهدافه وتطوره في كتابيَّ “المعتقل: يوميات كاتب في السجن” و“ماسورة قلم: مقاومة القمع في كينيا الاستعمار الجديد“، وفي مختلف المنشوراتالأخرى. كما كتب الشيء الكثير عن ذلك في الجرائد والمجلات والأوراق البحثية. لكن ما يكتسي أهمية، بالنسبة إلى نقاشنا حول لغة المسرح الإفريقي، هو أن كل أنشطة المركز كانتمترابطة– ينشأ بعضها عن البعض الآخر– بينما يرد كل واحد منها ضمن برنامج قائم بذاته. من هنا، كان المسرح، باعتباره بؤرة برنامجنا الثقافي المركزية، سيوفر مادة وأنشطة تتبعللمتعلمين الجدد من برنامج تعليم الكبار، ويكون في الآن عينه، قاعدة الأنشطة المتعددة ضمن البرنامج الثقافي المادي.
لكن لِمَ المسرح في القرية؟ هل كنا بصدد إدخال شيء غريب تماما إلى المجتمع، كما سيدعي المفوض الإقليمي في وقت لاحق؟.