تعزز المشهد الثقافي المغربي في العقدين الأخيرين بصدور عدد من المذكرات، من أبرزها مذكرات فاعلين سياسيين من هيئات تنتمي إلى اليسار المغربي. وتناولت هذه المذكرات بشكل متفاوت وبرؤى مختلفة، الأحداث الهامة والمصيرية أحيانا، التي عرفها المغرب زمن الحماية والاستقلال. وأثار مضمون هذه المذكرات وما جاء فيها من آراء ومواقف وتفسيرات ردود فعل متفاوتة، صدرت عن مثقفين وسياسيين ومهتمين من أطياف متعددة. وتم الاحتفاء غير ما مرة ببعض هذه المذكرات. كما تم تقديمها في عدد من المنابر والمؤسسات. وفي هذا السياق، ومساهمة منها في إثراء النقاش الدائر، وانسجاما مع اهتماماتها، نظمت مجلة رباط الكتب الإلكترونية لقاءً علميا بشراكة مع مؤسسة أرشيف المغرب، في موضوع ذاكرة اليسار. وساهمت في اللقاء الذي احتضنته المؤسسة بتاريخ 18 أبريل 2019، ثلة من الباحثين الجامعيين والشباب. وقد اختار المشاركون في اللقاء مقاربة موضوع الذاكرة، من خلال نماذج منتقاة هي: شهادات وتأملات لعبد الرحيم بوعبيد، وهكذا تكلم بنسعيد لمحمد بنسعيد آيت إيدر، وأحاديث فيما جرى لعبد الرحمن اليوسفي، ويوميات العمل الوطني المسلح لعبد السلام الجبلي، والمغرب الذي عشته لعبد الواحد الراضي. وحظيت هذه المساهمات بتمهيد نظري من خلال قراءة في كتاب ميلونكوليا اليسار: الماركسية، التاريخ، والذاكرة لإنزو ترافيرسو. مجلة رباط الكتب تفضلت بتقاسم ثمار هذا اللقاء مع قراء «أخبار اليوم»، والتي تنشرها على حلقات.
بعد دستور 1996، تصدعت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي بدورها وعرفت الانشقاقات. وأطلقت في المؤتمر الرابع المنعقد بالمحمدية في سنة 2000، مبادرة لتوحيد تنظيمات اليسار الجذري. وتوحدت في 2002 أربعة فصائل هي منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وHYPERLINK “about:blank” \o “الحركة من أجل الديمقراطية (الصفحة غير موجودة)”الحركة من أجل الديمقراطية، وحركة الديمقراطيين المستقلين، وHYPERLINK “about:blank” \o “الفعاليات اليسارية المستقلة (الصفحة غير موجودة)”الفعاليات اليسارية المستقلة وبعض المنتمين إلى 23 مارس. وتم المؤتمر التأسيسي لحزب اليسار الاشتراكي الموحد في 2002 (ص 304). وبعد المؤتمر الوطني الثاني المنعقد ببوزنيقة في سنة 2007، أخذ الحزب اسمه الحالي، أي الحزب الاشتراكي الموحد، الذي قاطع التصويت على دستور وانتخابات 2011.
الكتايب مسؤولية وواجب، ذلك ما يستشعره قارئ أولى الصفحات. ومن مقاصده الكبرى رد الاعتبار لفترة مفصلية قبيل الاستقلال وبعده. هل هو مذكرة سياسية تحاكي أدب المعاناة؟ أم أدب المحاكمة؟ أعتقد أنه جمع بينهما، ومال في أغلب المحطات إلى المحاكمة، أي محاكمة النظام والمؤسسات والأشخاص بل والذات.
هكذا حكم على لحظة “إيكس-ليبان”، واعتبرها من أعظم فرص المغرب الثمينة لانتزاع الاستقلال الكامل وبناء دولة المؤسسات (ص 163)، وعاب على حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال عدم توحيد الصفوف للانقضاض على هذه الفرصة (ص 164-165).وجاءت حكومة البكاي التي أجهزت بصفة نهائية على هذه الفرصة التي ضيعت التحرر والاستقلال (ص 168-169).
وحكم على تجربة جيش التحرير في الشمال والجنوب، حيث قدم تفاصيل دقيقة عن تنظيماته ومعاركه وحسم في بعض المغالطات التاريخية. ومنها حقيقة علاقة المحجوبي أحرضان بجيش التحرير (ص. 89)، واعتبار معركة إيكوفيون خيانة داخلية وخارجية (ص 122)، أنهت فصول مغامرة هذا الجيش الذي جرد من سلاحه وحيكت المؤامرات ضد قيادته، علما أنه لعب دورا محوريا في تشكيل نواة تنظيم مغاربي ينطلق من الصحراء. وبالتالي ضاعت هنا أيضا فرصة تاريخية أخرى لا تعوض (ص 140).
كما حكم على التجربة السياسية المغربية بعد دستور 1962، حيث عوض أن تبقى الملكية مؤسسة للتحكيم ترعى التعدد السياسي بمعناها الصحيح، راحت تستفرد بالحكم وتقصي القوى الوطنية الحية. وجاء أول دستور ليكرس حكم الفرد ويضع السلطات كلها في يد الملك (ص. 192). وراجع مواقفه من العنف السياسي ضد النظام، واعتبرها من دون أفق استراتيجي. وتأسف على تجربة التناوب التوافقي، واعتبره تناوبا مزيفا، إذ بالرغم من بعض الإيجابيات، تخللته الأخطاء القاتلة التي ستدفع الأحزاب السياسية ثمنها غاليا فيما بعد، فكان من الفرص المهدورة بالرغم من دوره الإيجابي في انتقال السلطة بسلاسة من الحسن الثاني إلى محمد السادس (ص 293).
وختاما، هكذا تكلم محمد بنسعيد عبارة عن مذكرة سياسية شخصية أصبحت ملكا للقراء، وشهادة على مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب. ويمكن للباحث في غياب الأرشيفات الرسمية اعتمادها لكتابة تاريخ مرحلة، بما أن التاريخ يبين لنا بوضوح أن تجربة المناضل والمثقف قد تتحول إلى مصدر إبداع، وإلى تعميق للوعي ونكران للذات، وهو ما نلمسه في هذه المذكرة السياسية. إذ إن صاحبها ينتمي إلى صنف من النخب لها من الوعي ومن الثقافة ومن الرأسمال الرمزي، ما يؤهلها لكتابة تاريخ المغرب الراهن.