فسحة رمضان على "أخبار اليوم".. الكوليرا تُفشل حملة سيدي محمد سنة 1868- الحلقة 17

15 مايو 2020 - 20:00

في ظل جائحة كوفيد ــ 19، اختارت «أخبار اليوم»، أن تنشر سلسلة من الحلقات من كتاب مرجعي بعنوان: «تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19»، لمؤلفه المؤرخ الراحل محمد الأمين البزاز، الذي اشتغل أستاذا بكلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط. ويعد الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه، أشرف عليها المؤرخ جرمان عياش أشهرا قبل رحيله سنة 1990.

تزامن تفشي الكوليرا في الرباط وسلا ومكناس ونواحيها، مع تحرك “محلة” السلطان سيدي محمد من مراكش إلى فاس. وكانت هذه التحركات من عوامل انتشار الأوبئة.

في 16 أبريل 1868، خرج السلطان من مراكش على رأس جيش من 5 إلى 6 آلاف رجل، لمواجهة القبائل المتمردة ويردها إلى الطاعة بالإكراه وليقضي على جيوب الفتن التي هددت المواصلات بين الرباط وفاس ومراكش. اجتاز الجيش إقليم السراغنة، وتوغل في تادلا ثم دخل بلاد زعير، وحط رحاله في معسكر عين زبيدة استعدادا لعملياته ضد هذه القبيلة. وكان عدد جيشه قد تضخم في الطريق بوحدات جديدة من مختلف قبائل السواحل، وبلغ 20 ألف رجل، وحتى ذلك الحين، أي أوائل يونيو، لم يكن قد ظهر في الجيش ما يدل على تفشي الكوليرا. لكن العدوى انتقلت إليه عن طريق جيش آخر مكون من 1500 إلى 2000 رجل كان في انتظار قدوم السلطان منذ شهرين على ضفاف أبي رقراق، في محل يبعد عن الرباط بمسيرة أربع ساعات. تحرك هذا الجيش في اتجاه معسكر السلطان بإمرة ولده إسماعيل. وفي 10 يونيو، توقف على بعد حوالي مسيرة ساعة من عين زبيدة، بحيث لم يعد يفصله عن جيش السلطان سوى واد زبيدة، أحد روافد أبي رقراق. وكانت هذه الوحدات الجديدة موبوءة، وربما، أن توقفها وإحجامها عن عبور الوادي كان بداعي الاحتياط، لكن فريق جيش السلطان توجه في إلى الوادي لجلب الماء، وفي الوقت عينه فعل الشيء ذاته فريق الجيش من الضفة الأخرى للوادي. وبهذا الاحتكاك غير المباشر جرت عملية نقل العدوى. فمن المعروف أن جرثومة الكوليرا تتكاثر في المياه الجارية، وبالتالي، فإن تماس الناس عبر الماء من عوامل انتقال المرض. وهكذا أصبحت وحدات السلطان موبوءة ومات منها عدد كبير خلال الليل. وحسب ما ذكره شاهد عيان “لم تخسر المحلة في اليومين الأولين سوى هؤلاء الذين اضطروا إلى مجابهة الموت عند ضفاف واد زبيدة”، إلا أن الوباء سرعان ما تفشى في المعسكر السلطاني، فاتكا بعدد كبير من أفراده، إذ ارتفع عدد موتاه حسب تقديرات السفير “بوميي”، إلى 375 في اليوم، وبلغت حصيلة خسائره 10 آلاف. أي بنسبة 50 في المائة من الجيش.

قد تبدو هذه التقديرات غير قابلة للتصديق، بيد أن الوثائق المغربية تزكيها ضمنيا بالإشارة إلى جسامة الخسائر، فقد جاء في رسالة الأمين محمد المدني إلى الكاتب سيدي محمد عمور في 11 ربيع الأول 1285 الموافق لـ2 يوليوز ما نصه: “ولم نقدر على إحصاء عدد من مات بهذا الريح من المحلة لأننا كنا في دهش عظيم، وكيف لا يدهش من يرى ستة على الجمل، أربعة في القرش مغرز عليهم، والاثنين علوية كقلال.. الحاصل مات من المخازنية والعسكر والبراني ما لا يُحصى، ومات قائد أرحى مسخر الأوداية القايد مبارك المعطي، والقائد الهاشمي بن المختار من أعيان أصحاب سيدنا، وغالب أعيان الشاوية.. وقد أدى الحال من الكثرة والحيرة والدهش الذي حصل للناس إلى ترك الموتى على الأرض تأكلها الضبع والذياب، ومن أحسنوا معه بالدفن دفنوه بحوائجه من غير غسل ولا صلاة”.

ومع ذلك، فقد صمد السلطان إلى غاية 18 يونيو، لكن بعد شيوع الفرار بين الجنود، انهارت كل آماله في القيام بعمل تأديبي ضد زعير، فأزمع الرحيل بدوره، وشد رحاله مصحوبا ببعض مقربيه ووصل مشارف سلا من حيث عاد عبر طريق بني حسن إلى مكناس التي وصلها في فاتح يوليوز.

أدى الوباء إذن، إلى تحطيم “حَرْكة” السلطان على زعير، وساهم تحرك جيشه في انتشار الوباء وتفشيه في المناطق التي سبق أن أقلع منها، فكان الوباء وبالا على سلا والرباط والدار البيضاء ومكناس. وفي 18 يوليوز 1868 كتب سفير فرنسا في طنجة يقول: “لقد عاد السلطان منذ مدة إلى مكناس، وعلى الرغم من تشتيته الجيش للحد من الكوليرا، فإن الوباء عاد إلى التفاقم في مكناس، وحتى في الرباط”. كما يظهر أن العدوى انتقلت إلى مراكش عن طريق من عاد إليها من مجنديها الفارين من عين زبيدة. وقد انتشر الوباء بعدها في السهول الوسطى تباعا في الدار البيضاء وأزمور والجديدة، وفي أسفي ظهر الوباء في 8 يوليوز ثم الصويرة، ومنها إلى تارودانت وسوس، ووصل في شتنبر إلى واد نون وطاطا.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *