فسحة رمضان على "أخبار اليوم".. نغوغي واثيونغو.. فن الدفاع عن الحرية- الحلقة 17

16 مايو 2020 - 01:00

« نغوغي واثيونغو »، الكيني، هو واحد من أبرز أدباء إفريقيا اليوم، إلى جانب النيجيريين وولي شوينكا وتشنوا أتشيبي، وهو مرشح دائم لجائزة نوبل للآداب. تشهد كتاباته المختلفة والمتنوعة، في الرواية والمسرح والنقد الأدبي، على انتصاره للقارة السمراء وإنسانها المستضعف وهوياتها المهمشة وثقافاتها المهملَة. في هذا الكتاب: « تفكيك استعمار العقل »، يدافع « واثيونغو »، بالتزام وشغف كبيرين، عن فكرة استعمال اللغات والأسماء الإفريقية في الفكر والأدب والسياسة وتخليص أشكال التعبير وأنماط الحياة من مخلفات الاستعمار، حتى تتفكك أنظمة الإمبريالية ويتحقق الاستقلال الكامل.

ظل يزعجني استخدام الإنجليزية، باعتبارها قناتي الأدبية في التعبير، في المسرح والرواية خصوصا. وقد عدت إلى هذه المسألة في حوار طلابي في « ليدز » سنة 1967، وفي كتابي « العودة إلى الديار » (1969). لكني ظللت أتجنب تقديم جواب قاطع بشأن هذا الموضوع. إذ بقيت إمكانية استعمال لغة إفريقية في عالم الاحتمال فقط، إلى أن جئت إلى « كاميريثو ».

وكانت « كاميريثو » هي التي أجبرتني على التحول إلى الـ »جيكويو »؛ ومن ثمة، إلى ما بلغ عندي « قطيعة إبستيمولوجية » مع ماضيّ، خاصة في مجال المسرح. إذ حلت مسألة الجمهور مسألة اختيار اللغة، وحل اختيار اللغة مسألة الجمهور. لكن كان لاستعمالنا للـ »جيكيو » نتائج أخرى ترتبط بقضايا المسرح، منها المضمون مثلا؛ الممثلون، اختبار الأداء، العروض والتلقي؛ أي المسرح بوصفه لغة.

تصف مسرحية « نغاهيكا نديندا » تحويل المزارعين إلى بروليتاريا في مجتمع استعماري جديد. وهي تظهر بشكل ملموس كيف تفقد عائلة « كيغوندا »، وهي عائلة زراعية فقيرة مطالبة بأن تضمن لقمة عيشها من حقلها الممتد على فدان ونصف إلى استئجار عملها، في آخر المطاف تجد نفسها محرومة حتى من الفدان والنصف بسبب اتحاد متعدد الجنسيات يتألف من مصنعين ومصرفيين يابانيين وأوروبيين وأمريكيين بمساعدة الملاك والتجار الوكلاء المحليين.

الأرض مسألة جوهرية لفهم تاريخ كينيا وسياستها المعاصرة، مثلما كانت فعلا في تاريخ القرن العشرين، حيثما سلبت أرض الشعب بالغزو أو الاتفاقيات غير المتكافئة أو إبادة جزء من السكان. وكانت منظمة « ماو ماو » المقاتلة، التي كانت سنان الكفاح المسلح في سبيل استقلال كينيا، تسمى رسميا جيش الأرض والحرية الكيني. ففي جزء منها، تركز مسرحية « نغاهيكا نديندا » بكثافة كبيرة على تاريخ الصراع من الأرض والحرية، خاصة خلال سنة 1952، عندما انطلق الكفاح المسلح بزعامة « كيماثي » وأوقفت الأنظمة الاستعمارية البريطانية جميع الحريات المدنية بفرض حالة الطوارئ؛ وخلال سنة 1963، حين تفاوض حزب الاتحاد الوطني الإفريقي الكيني (كانو)، بزعامة « كينياتا »، بنجاح، من أجل الحق في رفع علم وطني وترديد نشيد وطني ودعوة الشعب إلى انتخاب مجلس وطني مرة كل خمس سنوات. وأبرزت المسرحية كيف اختطف ذلك الاستقلال الذي مات من أجله آلاف الكينيين. بعبارة أخرى، أظهر انتقال كينيا من مستعمَرة تهيمن عليها المصالح البريطانية إلى مستعمرة جديدة، أبوبها مشرعة أمام مصالح استعمارية أوسع ممتدة من اليابان إلى أمريكا. لكن المسرحية وصفت، كذلك، الظروف الاجتماعية الراهنة، خاصة ظروف العمال في المصانع والمزارع المتعددة الجنسيات.

والآن، فقد شارك العديد من العمال والمزارعين في « كاميريثو » في الكفاح من أجل الأرض والحرية، إما في الجناح السري أو في الجنح النشيط في حرب العصابات. كان الكثير منهم في الغابات والجبال، والكثير رهن معسكرات الاعتقال الاستعماري وسجونه؛ فيما تعاون البعض بالطبع مع العدو البريطاني. وكان الكثير شهودا على حرق منازلهم، واغتصاب البريطانيين بناتهم، وسلب أرضهم وقتل أقاربهم. وبالفعل، كانت « كاميريثو » نتاج ذلك التاريخ من الكفاح البطولي ضد الاستعمار، ومن الخيانة الجسيمة اللاحقة في الاستعمار الجديد. إذ كانت المسرحية تحتفي بذلك التاريخ، بينما تبرز وحدة ذلك الكفاح واستمراره في الآن عينه. هنا، كان اختيار اللغة أساسيا، حيث لم تعد هناك الآن حاجزا بين مضمون تاريخهم والقناة اللغوية للتعبير عنه. ولأن المسرحية كتبت بلغة يمكن أن يفهمها الناس، فإنهم استطاعوا أن يشاركوا في جميع النقاشات اللاحقة حول النص. ذلك أنهم ناقشوا مضمونها ولغتها، بل وشكلها. فكانت العملية، خصوصا عند « نغوغي وا وميري و »كيماني جيكاو » وعندي، عملية تعلم مستمر: تعلم التاريخ، تعلم ما يحصل في المصانع وما يجري في الضيعات والمزارع، وتعلم لغتنا، لأن المزارعين هم أساسا حراس اللغة عبر سنوات استعمالها، وتعلم عناصر شكل المسرح الأفريقي من جديد.

ما عناصر الشكل هذه؟

في البدء كان الغناء والرقص. فالغناء والرقص، كما رأينا، محوريان في كل الطقوس تقريبا، التي تحتفي بالمطر والولادة والولادة الثانية والختان والزواج والجنائز، أو في كل الاحتفالات العادية. وحتى الكلام اليومي المتبادل بين المزارعين منثور بالأغنية. قد يكون بيتا أو بيتين، أو مقطعا، أو أغنية برمتها. والمهم هو أن ذلك الغناء والرقص ليسا مجرد زخرف، وإنما هما جزء متتام من ذلك الحوار، أو جلسة الشراب تلك، أو ذلك الطقس، أو ذلك الاحتفال. كما حاولنا، في مسرحية « نغاهيكا نديندا »، أن ندمج الغناء والرقص، باعتبارهما جزءا من البناء وحركة الممثلين، حيث تنشأ الأغنية مما سبق وتؤدي إلى ما سيأتي. إذ أصبح الغناء والرقص استمرارا للحوار والتمثيل.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي