فوضى الذاكرة.. «يوميات العمل الوطني والمسلح في المغرب»

17 مايو 2020 - 01:00

تعزز المشهد الثقافي المغربي في العقدين الأخيرين بصدور عدد من المذكرات، من أبرزها مذكرات فاعلين سياسيين من هيئات تنتمي إلى اليسار المغربي. وتناولت هذه المذكرات بشكل متفاوت وبرؤى مختلفة، الأحداث الهامة والمصيرية أحيانا، التي عرفها المغرب زمن الحماية والاستقلال. وأثار مضمون هذه المذكرات وما جاء فيها من آراء ومواقف وتفسيرات ردود فعل متفاوتة، صدرت عن مثقفين وسياسيين ومهتمين من أطياف متعددة. وتم الاحتفاء غير ما مرة ببعض هذه المذكرات. كما تم تقديمها في عدد من المنابر والمؤسسات. وفي هذا السياق، ومساهمة منها في إثراء النقاش الدائر، وانسجاما مع اهتماماتها، نظمت مجلة رباط الكتب الإلكترونية لقاءً علميا بشراكة مع مؤسسة أرشيف المغرب، في موضوع ذاكرة اليسار. وساهمت في اللقاء الذي احتضنته المؤسسة بتاريخ 18 أبريل 2019، ثلة من الباحثين الجامعيين والشباب. وقد اختار المشاركون في اللقاء مقاربة موضوع الذاكرة، من خلال نماذج منتقاة هي: شهادات وتأملات لعبد الرحيم بوعبيد، وهكذا تكلم بنسعيد لمحمد بنسعيد آيت إيدر، وأحاديث فيما جرى لعبد الرحمن اليوسفي، ويوميات العمل الوطني المسلح لعبد السلام الجبلي، والمغرب الذي عشته لعبد الواحد الراضي. وحظيت هذه المساهمات بتمهيد نظري من خلال قراءة في كتاب ميلونكوليا اليسار: الماركسية، التاريخ، والذاكرة لإنزو ترافيرسو. مجلة رباط الكتب تفضلت بتقاسم ثمار هذا اللقاء مع قراء «أخبار اليوم»، والتي تنشرها على حلقات.

هل كان عبد السلام الجبلي صادقا في كل ذكرى استحضرها وهو يتبادل أطراف الحديث مع مُحاوِرِه عبد الله العلوي؟ ألم تؤثر كل الأخبار التي تلقاها الجبلي منذ الاستقلال عبر وسائل الاتصال السمعية والبصرية (مثل المذياع والتلفاز والجرائد)، ومحيطه الاجتماعي، والمقاومين الذي جالسهم واستمع إليهم وهم يروُون تجاربهم، والمذكرات التي تمكن من الاطلاع عليها بعد نشرها، ألم تؤثر كل هذه العناصر في مخزون ذكرياته؟ ألم تتأثر ذاكرته الفردية بالذاكرة الجماعية؟ نستبعد عدم حصول ذلك، بناء على القوانين المنظمة لعمل الدماغ والذاكرة، والتي سلفت الإشارة إليها.

وكمثال على ما ذكرنا، نشير إلى حدث مركزي لدى الجبلي، كان له دور كبير في تشكل وعيه الوطني، هو اجتماع عقده مجموعة من الوطنيين المغاربة من بينهم عبد الله إبراهيم في منزل والده بحي قاعة ابن الناهض في مدينة مراكش يوم 18 شتنبر 1937م. يقول الجبلي عن هذا الاجتماع: “كان أحد أهم هذه الاجتماعات التي شهدتها حافلا، إذ حضره مئات الأشخاص وأخذ الكلمة عبد الله إبراهيم مطالبا بالاستقلال معززا كلامه بآيات قرآنية، وكان أغلب الحضور من الصناع التقليديين / الطبقة العاملة بمراكش” (ص.26). وفي صفحة أخرى، نجد الجبلي يؤكد أن عمره كان 8 أو 9 سنوات في تلك المرحلة، فهو يقول: “ورغم أن الأمور كانت بالنسبة إلي مشوشة وغير واضحة تماما لكوني طفلا، فإنني كنت أحس أن الأمر مهم وخطير وأن لهذه الاجتماعات أهمية” (ص.35). فكيف تمكن الجبلي إذن من التعرف على عبد الله إبراهيم وتذكر تاريخ الاجتماع بتلك الدقة؟ وكيف تمكن من تحديد هوية الحاضرين للاجتماع؟ وهل كان واعيا بمعنى لفظ “الاستقلال” الذي ذكر تلفظ عبد لله إبراهيم به في الاجتماع؟ ألم يكن صغيرا جدا على إدراك كل هذه التفاصيل؟

يقدم لنا الجبلي الإجابة عن هذا السؤال في الكتاب نفسه. فبعد استحضاره لذكرى هذا الاجتماع، يقول: “وقد أشارت تقارير الاستخبارات الفرنسية، بعد رفع السرية عنها، إلى هذا الاجتماع الذي تم في منزلنا في حي قاعة بناهيض درب سيدي أحمد بناصر”، وبالرجوع إلى التقرير الاستخباراتي رقم C 1148 لسنة 1937 بتوقيع العميد روكس، نجد ما يلي: “يذكر أن اجتماعا تم تنظيمه من طرف الوطنيين أمس من الساعة الثامنة وثلاثين دقيقة إلى الحادية عشرة ليلا بمنزل الجبلي، قاعة بناهيض، درب بناصر الذي يسكنه مولاي العربي. وقد حضر هذا الاجتماع تلاميذ المدارس والصناع التقليديون الذين بلغ عددهم حوالي 500 فرد […] وبعدها أخذ الكلمة مولاي عبد الله إبراهيم ليحثهم على متابعة منهجهم في تقديم الشكايات جماعة، كما تلا عدة آيات من القرآن تتعلق باستقلال المسلمين” (ص. 26 و29).

لعل أول شيء تجدر الإشارة إليه في هذا المقتطف الأخير، أن التقرير لم يطلع عليه الجبلي إلا بعد رفع السرية عنه، أي بعد حصول المغرب على الاستقلال. أما الملاحظة الثانية فهي تطابق مضامين التقرير مع ذكرى الجبلي: “تاريخ الاجتماع، مئات الأشخاص الحاضرين، عبد الله إبراهيم، آيات قرآنية، لفظ الاستقلال”. وبالتالي لم يعد هناك من شك في أن الجبلي قد تسللت معطيات جديدة كانت مجهولة نسبيا لديه عن الاجتماع المذكور إلى ذاكرته التي طفت إلى سطح الدماغ عند استحضارها، فقام بتعديلها وإعادة تثبيتها من جديد بشكل لا واع، مشكلا بذلك ذكرى جديدة غير حقيقية لأنه لم يكن قادرا على تذكرها لوحده دون عنصر مُساعد خارجي. فهل نحن بالفعل هنا أمام ذكريات؟ وهل يصح وصف كتابه بالمذكرة أو اليوميات كما سَمَّاها بنفسه؟

إضافة إلى ما سبق، يجب التأكيد بناء على نتائج الدراسات النفسية والعصبية، أن القوالب النمطية والتحيز والافتراضات والأحكام المسبقة تنزلق باستمرار إلى ذكرياتنا، زيادة على استخدام عمليات الانتقاء: فعلى سبيل المثال، عندما يحمل مُشتبه فيه مسدسا أو سلاحا أبيض، ويصوب في اتجاه الضحية، ينصب تركيز الشاهد على السلاح، فلا يلاحظ أي معطيات أخرى، حتى مظهر المشتبه فيه باستثناء السلاح. فذاكرتنا لا تملك الوقت الكافي لتسجيل كل شيء، وهي تُملأ بالمعلومات بشكل أساسي من المشهد. وتعَوِّضُ ذاكرة الشاهد المُعطيات المفقودة بالمعطيات التي تبدو منطقية لها، استنادا إلى تحيزاتها الخاصة، وبالتالي فالشهادة غير موضوعية على الدوام، لأن ذاكرتنا تقوم على التمثل الانتقائي لأحداث الماضي، بشكل إرادي أو لا إرادي.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *