برميل المحروقات يفجر مؤسسة دستورية.. أعاد مجلس المنافسة إلى الصفر بعدما لغّم الحكومة وأقبر مهمة البرلمان

30 يوليو 2020 - 23:00

بعد أسبوع من الانتظار لنتيجة المداولات الرسمية للمجلس حول الملف المعروض عليه منذ أكثر من عام، صدر ليلة أول أمس بلاغ غير مسبوق من نوعه للديوان الملكي، يكشف بعض تفاصيل الشد والجذب الذي دار في الأيام القليلة الماضية حول حجم العقوبات التي تستحقها الشركات التي تبيّن من خلال المعطيات الموثوقة التي تسرّبت من التقرير الذي استندت عليه أشغال المجلس، أنها متورطة في عمليات تواطؤ واتفاق على الأسعار، بما يؤكد الاتهامات التي وجّهتها إليها خلاصات اللجنة البرلمانية التي حققت في الموضوع..

بعدما لغّم الحكومة طويلا خلال فترة الحذف التدريجي للدعم الخاص بالمنتجات الطاقية، وأدى الصراع السياسي المحموم حوله إلى صدور تقرير مبتور للجنة البرلمانية التي تولّت التحقيق فيه، عاد ملف توزيع المحروقات ليفجّر مؤسسة دستورية هي مجلس المنافسة، وذلك بعد أقل من عامين من خروجها من فترة “موت سريري” ارتبطت في الأذهان بهذا الملف الحارق.

فبعد أسبوع من الانتظار لنتيجة المداولات الرسمية للمجلس حول الملف المعروض عليه منذ أكثر من عام، صدر ليلة أول أمس بلاغ غير مسبوق من نوعه للديوان الملكي، يكشف بعض تفاصيل الشد والجذب الذي دار في الأيام القليلة الماضية حول حجم العقوبات التي تستحقها الشركات، والتي تبيّن من خلال المعطيات الموثوقة التي تسرّبت من التقرير الذي استندت عليه أشغال المجلس، أنها متورطة في عمليات تواطؤ واتفاق على الأسعار، بما يؤكد الاتهامات التي وجّهتها إليها خلاصات اللجنة البرلمانية التي حققت في الموضوع.

بلاغ «حارق»

البلاغ قال إن الملك محمد السادس توصّل يوم الخميس 23 يوليوز 2020، بمذكرة من رئيس مجلس المنافسة تتعلق بـ”قرار المجلس” حول “التواطؤات المحتملة لشركات المحروقات وتجمع النفطيين بالمغرب”. ويضيف البلاغ أنه وفي هذه المذكرة، “رفع الرئيس إلى النظر السامي لجلالة الملك، محتوى “القرار المعتمد من طرف الجلسة العامة ليوم الأربعاء 22 يوليوز بموافقة 12 صوتا ومعارضة صوت واحد”، القاضي بفرض غرامة مالية بمبلغ “9 في المائة من رقم المعاملات السنوي المحقق بالمغرب” بالنسبة إلى الموزعين الثلاثة الرائدين، وبمبلغ أقل بالنسبة إلى باقي الشركات”.

بعد ذلك، يضيف البلاغ عينه، توصل الملك أول أمس الثلاثاء 28 يوليوز 2020، بمذكرة ثانية من رئيس مجلس المنافسة أيضا تهم الموضوع ذاته، “والتي يطلع من خلالها المعني بالأمر جلالة الملك بـ”قيمة الغرامات المفروضة” على الموزعين خلال الجلسة العامة ليوم 27 يوليوز. وجرى هذه المرة تحديد المبلغ في حدود 8 في المائة من رقم المعاملات السنوي دون تمييز بين الشركات، ودون أي إشارة إلى توزيع الأصوات”. كما توصّل الملك في اليوم عينه، بورقة صادرة عن “العديد” من أعضاء المجلس يبرزون من خلالها أن “تدبير هذا الملف اتسم بتجاوزات مسطرية وممارسات من طرف الرئيس مست جودة ونزاهة القرار الذي اتخذه المجلس”. وينقل البلاغ عن الأعضاء تسجيلهم “تظلمات” تتمثل في “التواصل الذي أضر ببحث القضية ومصداقية المجلس”، في إشارة محتملة إلى بعض التسريبات التي جرى نشرها بخصوص القرارات المنتظرة، و”اللجوء الإجباري إلى التصويت قبل إغلاق باب المناقشة”، في إشارة إلى أن القرار الأول القاضي بفرض عقوبة 9 في المائة جرى التصويت عليه بشكل “إجباري” قبل انتهاء المناقشات، و”التفسير المبتور وانتهاك المادة 39 من القانون المتعلقة بحرية الأسعار والمنافسة”. هذه المادة تنص على أنه “يجوز لمجلس المنافسة أن يصدر عقوبة مالية تطبق إما فورا أو في حالة عدم تنفيذ الأوامر أو في حالة عدم احترام التعهدات التي قبلها المجلس”. وتضيف المادة عينها أن هذه العقوبات المالية يجب أن تكون متناسبة مع خطورة الأفعال المؤاخذ عليها وأهمية الضرر الملحق بالاقتصاد، ومع وضعية الهيأة أو المنشأة الصادرة ضدها العقوبة أو المجموعة التي تنتمي إليها المنشأة، واحتمال العودة إلى الممارسات المحظورة بموجب هذا القسم.

كما تنص المادة 39 منه من القانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة على أن العقوبة “تحدد بشكل منفصل بالنسبة إلى كل منشأة أو هيأة صدرت ضدها العقوبة مع تعليل كل عقوبة. وإذا لم يكن المخالف منشأة، فإن المبلغ الأقصى للعقوبة هو أربعة ملايين ( 4.000.000) درهم. أما المبلغ الأقصى للعقوبة بالنسبة إلى منشأة، فهو10% من مبلغ رقم المعاملات الأعلى العالمي أو الوطني، بالنسبة إلى المنشآت التي ليس لها نشاط دولي، دون احتساب الرسوم والمنجز خلال إحدى السنوات المحاسبية المختتمة منذ السنة التي سبقت تلك التي جرى خلالها القيام بالممارسات”.

كما تسمح هذه المادة لمجلس المنافسة، بأن يأمر بنشر أو تعليق قراره بكامله أو في مستخرجات حسب الكيفيات التي يحددها. “كما يجوز له أن يأمر بإدراج القرار أو مستخرج منه في التقرير الذي يحرره المسيرون أو مجلس الإدارة أو مجلس الإدارة الجماعية في شأن عمليات السنة المحاسبية”.

ويضيف البلاغ الصادر عن الديوان الملكي أن “التظلم” الذي قدّمه “العديد” من أعضاء المجلس، يتضمن حديثا عن “غموض الإجراء الخاص بالتحقيق، والذي تميز بتقاسم انتقائي للوثائق”، و”عدم تلبية ملتمسات الأعضاء بهدف إجراء بحث متوازن للحجج المقدمة من طرف الشركات”، و”سلوك الرئيس الذي يوحي بأنه يتصرف بناء على تعليمات أو وفق أجندة شخصية”.

وخلص البلاغ إلى أنه وبالنظر إلى ما سبق، “واعتبارا للارتباك المحيط بهذا الملف والنسخ المتناقضة المقدمة، قرر جلالة الملك، نصره الله، متمسكا بشدة باستقلالية ومصداقية المؤسسات وضامنا لحسن سير عملها، تشكيل لجنة متخصصة تتكلف بإجراء التحقيقات الضرورية لتوضيح الوضعية وترفع للنظر السامي تقريرا مفصلا عن الموضوع في أقرب أجل”. وجاءت تركيبة هذه اللجنة كما أعلنها البلاغ، متضمنة كلا من رئيسي مجلسي البرلمان، ورئيس المحكمة الدستورية، ورئيس المجلس الأعلى للحسابات، ووالي بنك المغرب، ورئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها. على أن يتولى الأمين العام للحكومة مهمة التنسيق.

الفينة: أعضاء المجلس شهدوا على أنفسهم

الخبير الاقتصادي إدريس الفينة، علّق بعد صدور هذا البلاغ معتبرا أن مجلس المنافسة “يفشل أمام موزعي المحروقات”. وأضاف الفينة أن ملف موزعي المحروقات بالمغرب “أخد أبعاد جديدة، بعدما كان سابقا موضوع لجنة استطلاع برلمانية التي قدمت تقريرا يظهر جليا الاختلالات التي شابت أسعار المحروقات منذ تحريرها إبان حكومة السيد بنكيران”. وأضاف الخبير الاقتصادي أنه و”تبعا لبلاغ القصر الملكي اليوم، فملف موزعي المحروقات بالمغرب لم تتم معالجته بالمهنية الكافية من قبل أعضاء مجلس المنافسة، وفقا لما تنص عليه المساطر المعمول بها داخل هذه الهيئة والقانون المنظم لها”.

وأوضح الفينة أن أعضاء هذه الهيئة “كانوا شهودا على أنفسهم على حجم الاختلالات التي شابت معالجة هذا الملف، وهو أمر جد خطير يستدعي مساءلة كبيرة بخصوص الاستقلالية التي يجب أن يتحلى بها أعضاء هذه الهيئة الدستورية وأساسا الرئيس. كما أن هناك ارتباكا واضحا في قراءة منطوق القانون بشأن حجم العقوبات التي يجب تطبيقها”. وخلص الفينة إلى أن “القصر كان مجبرا أن يعين لجنة مختصة خارج أسوار مجلس المنافسة في سابقة من نوعها. وهو ما يؤكد الحساسية القصوى لهذا الملف الاقتصادي، كما أن الوضع يتطلب أن يقدم رئيس هذه الهيئة استقالته بعد فشله في أول امتحان له في مراقبة المنافسة داخل سوق توزيع المحروقات بالمغرب، الذي تتحكم فيه رؤوس أموال وطنية وأجنبية”.

من جانبه، الباحث المتخصص في الاقتصاد بالمعهد المغربي لتحليل السياسات، رشيد أوراز، قال إن ما وقع لمجلس المنافسة كان متوقعا، “فمن كان يظن أن مهمته ستكون سهلة ويسيرة فهو لا يعلم حجم التحديات المرتبطة بغياب المنافسة في الأسواق المغربية، والتي أوصلتنا قبل سنتين إلى مقاطعة اقتصادية تاريخية كان لها صدى عالميا”. وأضاف أوراز أنه كان من المتوقع أن تخوض الشركات وبعض النخب الاقتصادية مقاومة لعمل المجلس، “فطبيعة رأسمالية المحاباة المغربية لا تؤمن بقواعد التنافس الحر ولا بقوانين السوق، وحتى في نسخته السابقة فشل المجلس في مهمته، لما تمت إصابته عمدا بشلل لمدة طويلة، ولولا حملة المقاطعة الاقتصادية ربما لبقي على حاله إلى اليوم”. ونبّه أوراز إلى أن رأي المجلس بخصوص سوق المحروقات صدر ونشر في الجريدة الرسمية، وانتهى الجدل حوله، “والنقاش الآن يدور حول حجم الغرامات، أما أن التواطؤ في السوق، فهو مؤكد بالدراسة التي أصدرها المجلس قبل أشهر ونشرت. ووصف المجلس حجم هامش الربح الذي حققته الشركات بالفاحش، وهذا بسبب التواطؤ بينها”.

ولادة ملتهبة للمجلس

علاقة هذا المجلس بملف المحروقات تأسست منذ أولى أيامه، حيث كانت شكايات المستهلكين وبعض الأطراف السياسية من وجود هيمنة واحتكار في سوق المنتجات الطاقية يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، من بين أولى الملفات التي عرضت عليه، إثر تعيين الملك إدريس الكراوي رئيسا لهذه المؤسسة، في نونبر 2018، مخرجا إياها من حالة شلل دامت أربع سنوات، حيث كانت ولاية الرئيس السابق، إدريس بنعلي، قد انتهت، كما صدرت قوانين جديدة خاصة بحرية الأسعار والمنافسة وتركيبة واختصاصات المجلس، دون أن تجد طريقها إلى التطبيق. وكانت فترة شلل المجلس قد شهدت تقديم طلبين كتابيين من رئيس الحكومة بهدف تعيين أعضائه الجدد، بعدما أصبح رئيسه السابق، عبدالعالي بنعمور، يكتفي بظهور بروتوكولي في المناسبات الرسمية، ويدعو إلى تشديد المراقبة على أسعار المحروقات… كما أن الشكوى من عدم استفادة المواطن المغربي من انخفاض أسعار البترول في الأسواق الدولية، لم تكن مجرد انطباع لدى رجل الشارع، بل أصبحت معطى رسميا منذ إقرار والي بنك المغرب في ندوته المنعقدة متم شتنبر 2016، بوجود تفاوت بين أسعار البترول وما تعلنه محطات الوقود بالمغرب. “صحيح أن تقلبات أسعار البترول في الأسواق الدولية لا تنعكس على أسعار المحروقات بالمغرب، لكن هذا ليس اختصاصنا، وهو يعني أن المنافسة بين الفاعلين لا تؤدي دورها المفترض”، يقول الجواهري في جواب عن سؤال لأحد الصحافيين حينها.

أسابيع قليلة بعد تعيين رئيسه وأعضائه الجدد، سوف يصدر مجلس المنافسة قراره الخاص بطلب تسقيف أسعار المحروقات الذي قدمته الحكومة. المجلس أصار زوبعة مستهل العام 2019، حين رفض الاستجابة لقرار الحكومة، باعتباره لا يمثل حلا، كما يخدم مصالح الشركات الكبرى أكثر من تلك الصغيرة. فيما ظل الترقب يلف دراسة أجراها المجلس في عهد رئيسه السابق، حول سوق المحروقات، لاعتبارها مرتبطة بالشكايات التي توصل بها المجلس من جمعيات المستهلكين، رغم أن كل المؤشرات والتسريبات كانت تؤكد وجود مخالفات تتطلب عقوبات كبيرة.

وأظهرت الندوة الصحافية التي عقدها إدريس الكراوي وقتها لتقديم قرار المجلس، أن هناك صراعا خفيّا بينه وبين لحسن الداودي، الوزير المكلف بالحكامة والشؤون العامة، إذ علمت “أخبار اليوم” أن أحد أسباب التوتر بين الطرفين يعود إلى طلب الكراوي الاستماع إلى الوزير الداودي في جلسة خاصة حول موضوع تسقيف الأسعار، إلا أن الداودي وبعد استشارة الأمانة العامة للحكومة، رفض الاستجابة لأن هيئات الحكامة لا يمكنها استدعاء الوزراء للمساءلة، على اعتبار أنها هيئات للرأي والاستشارة وليست هيئات للتقييم والمساءلة.

لم يلق رأي مجلس المنافسة القبول الذي كان منتظرا، بحيث صدم الحكومة التي ردّت عليه بالتشبث بقرارها بحجة أن المواطنين ينتظرون مثل هذا القرار، كما صدم فئات واسعة من المجتمع، لأن أرباح شركات المحروقات كما تضمنتها وثائق رسمية للبرلمان والحكومة كانت “فاحشة وغير أخلاقية”، وهو الوضع الذي لم يقدم مجلس المنافسة له جوابا محددا، مفضلا التعبير عن رفضه لمشروع القرار الحكومي، وإجراء تقييم سلبي لسياسة تحرير الأسعار من قبل الحكومة السابقة، وهو التقييم الذي تعرض للنقد كذلك.

رفض التسقيف أول خطوة

“مجلس المنافسة لم يرفض طب الحكومة بشأن مشروع تسقيف أسعار وهوامش الربح، بل اعتبر هذا التدبير غير كاف لوحده لحماية القدرة الشرائية للمستهلك، وغير مجد من الناحية الاقتصادية والتنافسية”، يقول إدريس الكراوي، في حوار سابق له مع “أخبار اليوم”، مضيفا أن المؤسسة حرصت من خلال رأيها هذا إعطاء إشارة قوية للمجتمع “مفادها أن مشروع قرار التسقيف ظرفي ولا يجيب عن الاختلالات ذات الطبيعة الهيكلية التي يعرفها قطاع المحروقات. فهذا القطاع يحتاج، حسب رأي مجلس المنافسة، إلى إصلاح بنيوي، عميق وشامل”. وأكد الكراوي وقتها أن المجلس تلقى إحالة من لدن إحدى المركزيات النقابية، وإحدى فدراليات مهنيي قطاع المحروقات تفيد بوجود محتمل لتصرفات منافية للمنافسة في قطاع توزيع المحروقات، “وفور إعادة تفعيل المجلس بعد تعيين رئيس وأمين عام جديدين، وبعد تنصيب أعضائه وأدائهم القسم أمام محكمة الاستئناف بالرباط، وطبقا للمساطر المحددة بموجب القانون جرى تعين مقرر للتحقيق والبحث في الموضوع”.

في أواخر السنة الماضية، كانت المعطيات التي تسربت من أسرار هذا الملف، تقول إن التحريات والأبحاث التي قام بها مجلس المنافسة في ملف أسعار بيع المحروقات في الأسواق المغربية، خلصت إلى ثبوت وجود تواطؤ للاتفاق حول الأسعار بين 9 من شركات توزيع هذه المواد الحيوية، حيث وجه المجلس رسميا مؤاخذاته إلى 
هذه الشركات إلى جانب التجمع المهني المغربي للموزعين.

الخلاصات التي انتهى إليها مجلس المنافسة بشأن وجود اتفاق بين شركات المحروقات العاملة في السوق المغربية، والتي كان الزملاء في موقع “ميديا24” سباقين إلى كشفها أواسط شتنبر 2019؛ تعتبر الإقرار الرسمي الثالث بوجود تواطؤ بين هذه الشركات على حساب المستهلك، بعد والي بنك المغرب عبداللطيف الجواهري الذي كان أول من تحدث عن ذلك من موقع رسمي، والتقرير النهائي للمهمة الاستطلاعية التي قام بها مجلس النواب بهذا الشأن، والذي سجّل وجود “تقارب بين أسعار البيع المطبقة على مواد المحروقات بين مختلف الشركات والمحطات في مختلف المناطق والجهات، خاصة عند بداية التحرير، مع تسجيل تغيير في هذا التقارب مؤخرا”.

عقوبات معلقة

مصادر من داخل دائرة الفاعلين في قطاع توزيع المحروقات في المغرب، قالت لـ”أخبار اليوم” وقتها إن الشركات المعنية بمؤاخذات المجلس سارعت إلى الاستعانة بمكاتب ومؤسسات كبرى للاستشارة القانونية، بهدف تحضير ردودها على مراسلات المؤسسة الدستورية. وفيما خلصت الفروع الأجنبية للشركات متعددة الجنسيات بسرعة إلى اختيار مسطرة عدم المنازعة، أو ما يُعرف باللغة الفرنسية بـ “procédure de non contestation des griefs “، والتي يسمح القانون باللجوء إليها داخل أجل شهرين من التوصل بمراسلات المجلس الرسمية المتضمنة للمؤاخذات المسجلة؛ استنفدت شركات أخرى عاملة في السوق المغربية هذا الأجل دون التعبير عن “الاعتراف” وطلب التفاوض والنقاش حول تفاصيل المؤاخذات، فيما استعانت إحدى كبرى الشركات المغربية العاملة في هذا المجال، بمكتب محاماة كبير في مدينة الدار البيضاء، معروف باشتغاله على الملفات الكبرى وذات الأبعاد الدولية أو الاقتصادية الاستثنائية.

وبينما رفضت مصادر “أخبار اليوم” جيّدة الاطلاع الإفصاح عن أسماء المعنيين بالعقوبات المنتظرة أو تحديد الشركات الأجنبية الثلاث التي سلكت مسطرة عدم المنازعة في المؤاخذات الموجهة إليها، فإنه وبالعودة إلى التقرير التركيبي للمهمة الاستطلاعية حول أسعار بيع المحروقات السائلة للعموم وشروط المنافسة بعد قرار التحرير، كما نُشر في الموقع الرسمي لمجلس النواب، يقول إن هناك 20 شركة لتوزيع المواد البترولية السائلة في المغرب، منها ثلاث فروع لشركات متعددة الجنسيات تخضع للقانون المغربي، وهي كل من “فيفو إينرجي المغرب” التي تحمل محطاتها علامة “شيل”، و”طوطال المغرب”، و”ليبيا أويل المغرب”.

مصادر كانت معنية ببعض مراحل اشتغال مجلس المنافسة على ملف المحروقات، قالت لـ”أخبار اليوم” إن السرعة التي انتهت بها تحريات المجلس حول الموضوع وما خلصت إليه من ثبوت للاتفاق حول الأسعار، “يعني أن التجاوزات كانت كبيرة وفاضحة، لأن مثل هذه العمليات تتطلّب سنوات من البحث والتحري في تجارب أخرى من بينها دول أوربية عريقة في مجال تقنين السوق بمؤسسات مماثلة”. وحول ما إن كانت تحريات المجلس قد استعانت بالوسائل القضائية للتحري من قبيل الشرطة القضائية والنيابة العامة، قال المصدر نفسه إن “هذا مما لا يمكن التطرّق إليه احتراما لأمور ينبغي أن تظل سرية إلى أن يقرر المجلس إعلان خلاصاته بنفسه”.

المخاض تجدد مع الجائحة

كان يفترض أن يصدر قرار مجلس المنافسة حول هذا الملف شهر أبريل الماضي، قبل أن تتأخر الخطوة قرابة ثلاثة أشهر، في ارتباط محتمل بوضعية الطوارئ الصحية المعلنة بسبب جائحة كورونا. ومع اقتراب هذا الموعد، وتحديدا في شهر مارس الماضي، بدأت بعض الشركات تسعى إلى التنصل من مسؤولية ارتفاع أسعار المحروقات منذ تحرير القطاع في 2016 وعدم احترام قواعد المنافسة، وذلك بممارستها ضغوطات على أرباب وتجار ومسيري محطات التوزيع، لتوقيع التزامات بأثر رجعي تفيد بأنهم مسؤولون عن تحديد الأسعار، ويتعلق الأمر بشركتين مارستا ضغوطا على المتعاقدين معها للتوقيع على هذه الالتزامات، ما دفع جمعية أرباب المحطات للانتفاض ووضع شكاية لدى مجلس المنافسة.

وعلمت “أخبار اليوم”، أن عددا من أرباب المحطات اضطروا مكرهين للتوقيع بعد تهديدهم بوقف تزويدهم، إذا رفضوا. واستنكرت “الجامعة الوطنية لأرباب وتجار ومسيري محطات الوقود بالمغرب” في بيان لها أصدرته وقتها، لجوء الشركتين لأسلوب الضغط على الموزعين، وأعلنت “رفض هذا القرار المجحف”، وطلبت من جميع المهنيين عدم التوقيع على هذه الالتزامات “الغامضة والإذعانية”. بل أكثر من ذلك لجأت إلى توجيه شكاية إلى مجلس المنافسة، تشكو فيها من هذه الضغوط، وتطالبه بالتدخل بشكل “عاجل”، لمراجعة عقود الإذعان التي تربطها بهذه الشركات. فـ”كل موزع مرتبط بشركة لا يمكنه تغييرها، وبالتالي، فهو خاضع لها”، يقول جمال زريكم، رئيس الجامعة، لـ”أخبار اليوم”. وأشار زريكم، إلى أن الموزعين يطالبون بحقهم في تغيير الشركات التي يتعاملون معها ضمانا للمنافسة، مشيرا إلى أن هذا المشروع سبق الاشتغال عليه 
مع الوزارة المكلفة بالشؤون العامة والحكامة، لكنه لم يتحقق.

وأفادت الجامعة في بلاغ صدر يوم 12 مارس، أن أرباب ومسيري المحطات، فوجئوا بإجبارهم على توقيع التزامات “بأثر رجعي تفيد أنهم كانوا يتحملون مسؤولية تحديد أسعار المحروقات في المحطات، وبالتالي، يتحكمون في تحديد هامش الربح”. وجاء في البيان أنه وبسبب التبعية الاقتصادية والقانونية لأرباب ومسيري محطات الوقود، للشركات التي يحملون علامتها التجارية، بحيث يفرض عليهم ثمن الشراء وبالتالي، “فثمن البيع مفروض عليهم بطريقة غير مباشرة”، كما أنهم خاضعون “لعقود إذعان، مع شركات المحروقات، التي تجعلهم
عرضة للضغوط”.

فتح صهاريج “سامير”

بعد تعليق صدور قرار المجلس، وتحديدا منتصف ماي الماضي أُعلن رسميا عن قرار كراء صهاريج مصفاة سامير للاستفادة من تهاوي أسعار المواد البترولية في السوق الدولي التي تراجعت إلى حدود 20 دولارا. ومع حرص الحكومة على عدم الظهور في الواجهة بسبب الدعاوى القضائية المرفوعة ضدها في محاكم واشنطن، تقرر أن تتم العملية عن طريق المكتب الوطني للهيدروكاربونات والمعادن.. يقول مصدر اشتغل عن قرب على الملف في تصريح لـ “أخبار اليوم”: “فكرة استغلال صهاريج مصفاة “سامير” التي خرجت إلى العلن منتصف ماي مباشرة بعد وضع الطلب أمام المحكمة التجارية، ظهرت في وقت مبكر وتحديدا في بداية شهر أبريل، بعدما بدأ يتأكد المنحى التنازلي لأسعار البترول في جميع الأسواق المنتجة للبترول”.

المصدر ذاته أضاف: “على العكس مما قد يعتقد البعض فالقرار لم يكن مصدره لا وزارة الطاقة ولا حتى رئاسة الحكومة، بل خرج من ردهات وزارتي الداخلية والمالية اللتين طلبتا تقريرا مستعجلا للتأكد من صلاحية الصهاريج لاستقبال الكميات التي سيتم استيرادها من الخارج، وهي العملية التي قامت بها لجنة تقنية، قبل أن يُرفع الأمر إلى الحكومة التي تبنت الفكرة وأعطت موافقتها بتكليف الوكيل القضائي للمملكة بمباشرة إجراءات وضع الطلب بين يدي القاضي المنتدب بالمحكمة التجارية بالدار البيضاء، وهو الطلب الذي حصل على الموافقة في ظرف يومين فقط”.

بعملية حسابية بسيطة، كان بإمكان الحكومة في حال سرَّعت من إجراءات استيراد الكميات المطلوبة لملأ صهاريج مصفاة سامير أن تربح مبالغ مالية كبيرة، يقول مصدرنا، لكن الأهم من هذا كله “فالأمر يتعلق بتأمين مخزون استراتيجي لم يُحترم أبدا، رغم أن هناك قانونا يلزم بتوفر 60 يوما، وهو ما وقف عليه قضاة المجلس الأعلى للحسابات، حيث أشار التقرير الصادر بهذا الخصوص إلى تراجع المخزون الاستراتيجي إلى حوالي 24 يوما فقط. وهو ما يدل على عدم التزام شركات التوزيع بتوفير المخزون الاستراتيجي المطلوب حيث تكتفي بتأمين مخزون اشتغال يتجدد بشكل مستمر”.

بهذا الخصوص يقول الحسين اليماني، منسق الجبهة الوطنية لإنقاذ المصفاة المغربية لتكرير البترول، “إن نموذج تأمين الحاجيات الوطنية أبان عن فشله بعد أربع سنوات من تجريبه، وتأكد خطر الرهان عليه بعد تفشي فيروس كورونا، وهو ما نبهنا إليه في أكثر من مناسبة. وقلنا إن من مظاهر فشل هذا النموذج عدم الانضباط لشرط احترام مخزون 60 يوما للمواد الطاقية، و30 يوما للنفط الخام كما يحدده القانون، وهو ما كان موضوع تقارير المجلس الأعلى الحسابات ومجلس المنافسة، وحتى وكالة الطاقة الدولية التي نبهت المغرب إلى هذا المشكل. ثم هناك ما يتعلق بالاختلالات التي تشهدها الأسعار، حيث يجمع الجميع على أنها أسعار فاحشة، تأكدت مع تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية. وطالما قلنا إن معدل الزيادة يتراوح بين 1 درهم و1.20 درهم، عما كان عليه الحال قبل تحرير السوق، وبمعنى آخر فتأمين تزويد السوق يجري على حساب المستهلك والاقتصاد ومصلحة الدولة”.

عاد موضوع المحروقات ليطرح بشكل رسمي داخل البرلمان، حيث كشف الرباح أمام اجتماع لجنة البنيات الأساسية، بالمجلس خصص لدراسة “انعكاسات الهبوط الحاد المسجل في أسعار النفط الخام في الأسواق الدولية”، يوم 1 يونيو، أن أربع شركات فرعية تابعة للاسمير تمكنت من العودة للعمل، بمساعدة من الحكومة، منها شركة توزيع المحروقات وشركة استيراد المحروقات التي رخصت لها الحكومة وشركة التخزين التي بدأت تعمل، وشركة نقل المحروقات التي تملك الشاحنات والتي أيضا استأنفت العمل.

وقال الوزير للبرلمانيين: “كل هذه الشركات الفرعية ساعدناها للعودة إلى العمل وبقي فقط، نشاط تكرير النفط، الذي لازال لم يحسم في المحكمة”، مضيفا: “كان لنا أمل أن يأتي مستثمر لاقتناء لاسمير لأن البلاد في حاجة إلى تكرير النفط، لكن الملف عند القضاء”، مشيرا إلى أنه لازالت هناك عروض لشرائها، لكن الأمر يطرح “إشكالات”، حسب قوله، منها أنه لإعادة تشغيل التكرير، فانه يجب تخصيص ملايين الدراهم، كما أن المستثمر الجديد “سيطلب حصة من السوق الداخلي قد تصل 30 في المائة، أو 40 في المائة”، وفي هذه الحالة يجب تقليص 30 في المائة من واردات الشركات الحالية، وقد يطلب المستثمر إعفاءه من جزء من ديون الدولة التي تصل 14 مليار درهم، كما سيبحث عن إمكانية إعفائه من جزء من ديون الأبناك، التي لها أن تقبل أو ترفض، معتبرا أن “هذه معادلة صعبة”.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي