تابعنا، خلال الأسبوع الماضي، درسين مختلفين من محيطنا المتوسطي، لكيفية تأثير الأزمات السياسية وشبهات اختلاط السلطة بالمال، في الأنظمة السياسية واستقرار الدول؛ الأول جاءنا من جارتنا الشمالية إسبانيا، فيما الثاني قدم من أقصى شرق البحيرة المتوسطية، وتحديدا من العاصمة اللبنانية بيروت. ليس في هذا الربط بين واقعتي «نفي» الملك التاريخي لإسبانيا الديمقراطية، وانفجار ميناء بيروت أي تعسّف أو افتعال، بل إن كل متتبع للحدثين يعرف بداهة تسبّب شبهات الفساد وتهديد المؤسسات في كلتا الواقعتين، ليبقى الاختلاف في كيفية التعاطي معهما، وهو ما يفضي بالضرورة إلى اختلاف المآلات والنتائج، وهنا مكمن العبرة.
دعونا نؤكد أولا أننا ورغم كل ما أريد لنا أن نقرأه في السنوات القليلة الماضية عن «نهاية التاريخ»، وأفول نجم البحيرة المتوسّطية، التي ظلّت على مدى آلاف السنين مركزا للحياة البشرية فوق كوكب الأرض؛ فإن ما نعيشه حاليا يؤكد استمرار فضائنا المتوسّطي هذا في رسم واقع ومستقبل البشرية.
ومهما حاولت بعض الدراسات الاستشرافية إقناعنا بأن مركز العالم آخذ في الانزياح نحو الشرق، والانتقال من البحر المتوسّط إلى المحيط الهادي، فإن ما يقع أمام أعيننا، حاليا، يؤكد احتفاظ هذا المجال الجغرافي بمركزيته، بل ونشوء رهانات جيواستراتيجية جديدة حوله، ويكفي أن نتابع هذا التقاطع الجديد الآخذ في التشكل بين محور تركيا-ليبيا ومحور مصر-اليونان، لنتأكد من استمرار وقوف المغرب عند بوابة البحيرة التي تحدد مستقبل البشرية، وما سيكون عليه النظام العالمي في نهاية المخاض الحالي. ولعلّها صدفة بليغة أن يبرز خط بيروت-مدريد الرابط بين العاصمة الواقعة في أقصى شرق جنوب المتوسط، ونظيرتها الواقعة في أقصى غرب ضفته الشمالية.
في الحالة اللبنانية، لا يخفى على أحد أن الانفجار المأساوي الذي دمّر بيروت الأسبوع الماضي يرتبط بأسباب مباشرة، قد تكون الإهمال أو التقصير أو حتى التآمر والتدبير، لكن له أسبابا غير مباشرة، هي تراكم طبقات سميكة من الفساد بأنواعه السياسية والاقتصادية. ولنسجّل أولا أن لبنان يجرّ تبعات أزمة سياسية خانقة تعود إلى العام 2014 على الأقل، حين انتهت ولاية الرئيس السابق، ميشيل سليمان، وبدت الوصفة القائمة على التوافق الطائفي عاجزة عن تجديد المؤسسات المنتهية الولاية.
تفاقم هذه الأزمة السياسية وارتهانها لتطورات الوضع في سوريا المجاورة، أدى إلى بروز جبل الجليد الذي ظلّت بنود اتفاق «الطائف»، الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، تخفيه عن الأنظار. ولو أن النظام السياسي اللبناني حاز القدرة الكافية للقيام بإجراءات حقيقية وواضحة لمحاصرة الفساد وتقليص الهوة بين أغنياء التوافق الطائفي وفقراء الشعب اللبناني، وجرّ بعض رموز الاحتكار والريع والاغتناء الفاحش وغير المشروع إلى المحاكم، لجدّدت المؤسسات السياسية دماءها، وربما كان من بين ما صحّحته من أوضاع مختلة، ما كان عليه ميناء بيروت من إهمال وإبقاء لمواد شديدة الانفجار داخل مخازنه.
لقد انتصرت المصالح الخاصة لبعض النافذين، وصادف ذلك تحوّلات إقليمية ودولية كبيرة انعكست على الوضع السياسي الداخلي، لأن جل الفرقاء مرتهنون إلى عرابيهم الأجانب، وكانت النتيجة ما شاهده العالم الأسبوع الماضي، ليس أثناء حدوث الانفجار المأساوي الذي دمّر نصف العاصمة، بل ما تلاه من مشاهد الاستباحة التي قام بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لسيادة لبنان ومؤسساته. لقد شاهدنا جميعا النتيجة الحتمية والمباشرة لإضعاف البناء المؤسساتي وتركه نهبا للفساد والمحاصصة الريعية، وخطورة ربط الاستقرار الداخلي بفاعلين خارجيين، وكيف مهّدت «عصابة» المضاربين في العملات لانهيار الدولة اللبنانية منذ أواخر السنة الماضية، وحالة الانهيار الشامل التي باتت عليها الدولة اللبنانية، ذلك أن خيطا ناظما واحدا يربط الاقتصاد بالسيادة، وهذه الأخيرة بالشرعية الشعبية.
في الضفة المقابلة من أقصى غرب شمال المتوسط، كانت إسبانيا تتعرّض في وقت شبه متزامن مع بدايات الأزمة اللبنانية، لهزة غير مسبوقة منذ عودة الديمقراطية إلى إسبانيا منتصف السبعينيات. أنباء متواترة عن شبهات فساد تحوم حول شخص الملك الإسباني السابق، خوان كارلوس، ترتبط بشكل مباشر بمصالح إسبانيا الاقتصادية ومعاملات شركاتها في الخارج.
يتمتّع خوان كارلوس برصيد كبير، لا يضاهيه أي طرف سياسي داخل إسبانيا، من الشعبية والمساهمة الفعلية في بناء إسبانيا الديمقراطية والمتقدمة. كان بإمكان الرجل أن «يصعد الجبل»، كما فعل ميشيل عون بعد انتخابات 2014 في لبنان، ويحتمي بتيارات اليمين الإسباني المعروف باعتناقه المذهب الملكي، ويهدد بتأزيم الوضع السياسي والاقتصادي العام للبلاد في حال الاقتراب منه أو محاسبته، خاصة أنه يملك «حجة» قوية، تتمثل في أن جل ما يؤاخذ به، من ربط لعلاقات مشبوهة ببعض الزعماء الأجانب وحصوله على هدايا وعمولات، كان هدفه تمكين الشركات الإسبانية من بعض الصفقات ومساعدتها على اقتحام بعض الأسواق…
لا شيء من ذلك كله وقع، وكل ما عرفته إسبانيا منذ يونيو 2014 حين تنازل كارلوس عن العرش لابنه، وإلى غاية الأسبوع الماضي حين غادر البلاد نحو منفى أريد له أن يبدو اختياريا، يمكن اختزاله في مشهد تبدو فيه الدولة الإسبانية كما لو أنها تبتر عضوها الذي ظهرت عليه علامات الفساد، بل تبدو المؤسسة الملكية الإسبانية نفسها كمن يتبرأ منه ويدفعه نحو اختيار بوابة الخروج الإرادي حتى لا تضطر إلى طرده. صحيح أن خلف ما وقع توجد حسابات كثيرة يخفى منها أكثر مما يُعلن، حيث لا يتعلّق الأمر بمجرد حرص على تجنيب المؤسسة الملكية الإسبانية أي سخط شعبي، بل بشكاوى وضغوط دول قوية أخرى، منها دول أوروبية، رفضت خروج الملك من لعبة التوازنات الداخلية إلى توظيف مكانته لدعم الشركات الإسبانية في مواجهة نظيراتها الأوروبية في الأسواق العالمية، لكن العبرة تبقى في هذه المعالجة التي تعلي من شأن المؤسسات وتستأصل جذور الفساد حين ينكشف أمره، عكس الحالة اللبنانية التي بات فيها الفساد بنية مطابقة للحالة المؤسساتية، عمومية كانت أو خاصة. اختارت مدريد استئصال الورم بمشرط صغير، فجنّبت نفسها خطر اهتزاز أركان الدولة، وبقيت بيروت رهينة لدى أخطبوط الفساد، فانفجر مرفؤها، ويا لها من هوة سحيقة تفصل شمال المتوسط عن جنوبه.