شهد المعهد العالي للإعلام والاتصال، يوم الأربعاء الماضي، تتويج الأعمال الفائزة في الدورة الثالثة من المسابقة التي تنظمها المؤسسة المتخصصة في التكوين الصحافي، بشراكةمع السفارة السويسرية بالمغرب.
خصصت هذه الدورة لموضوع الإنتاجات الصحافية حول موضوع حقوق المرأة في المغرب، وشهدت مشاركة 23 طالبا وطالبة من القسمين العربي والفرنسي، للسنتين الثانية والثالثةمن الإجازة الأساسية، وانتهت لجنة التحكيم إلى تتويج طالبتين ستستفيدان من فرصة للتكوين الصحافي داخل مؤسسات سويسرية عريقة، وهما كل من أحلام غاجو صاحبةربورتاج «نساء غير مرئيات» عن القسم الفرنسي، وندى الحسوني من القسم العربي عن ربورتاج «تمييز يقتل التميّز»، وهو العمل الذي تنشره «أخبار اليوم».
@ ندى الحسوني*
«لدي مقت شديد لكل النساء المُخربِشات، إنَّ إبرة الخياطة وليس القلم هي الأداة التي يجب أن يتعاملن بها، وهي الوحيدة التي هن قادرات على استعمالها بمهارة»، بهذه الكلمات،يسجل التاريخ العنصرية والسلطة الذكورية الصريحة ضد النساء الكاتبات على لسان أبي ثناء الألوسي في القرن الـ19م، والتي تميط اللثام عن ظلم تاريخي لا يفرق بين الرجلالبعيد عن الثقافة والعلم والرجل الذي يمارسهما، فالاثنان سيان.
قوبل انتقال المرأة من عالم الحكي إلى الكتابة بالكثير من الرفض، وزرع في طريقها الكثير من الأشواك، فذلك العالم الذي ارتبط بالفحولة وسيادة الفحولة كانت المرأة فيه الملهمللرجل، لم يسمح لها أن تتجاوز ذلك وتصبح فاعلا عوض مفعول به. بل جرت قولبة الإطار الأدبي وجعل ما تجود به المرأة على المكتبة العربية محصورا في ما سمي بـ«الأدبالنسائي»، فصار موضوعا إشكاليا بامتياز، أثار منذ ظهوره عددا غير محدود من الأسئلة النقدية، توزعت عبر مشروعية المصطلح ومفهومه، وعبر الرفض القاطع لما يحمل في عمقمدلوله من تمييز صارخ أساسه الجنس.
هل لأنني امرأة؟
لم تسمح لنا الأوضاع الصحية التي يعيشها العالم في الآونة الأخيرة باللقاء، فاكتفينا بتعويض نسبي لهذا الأمر عبر تقنيات التكنولوجيا الحديثة التي وفرت لنا جزءا من التفاعل المطلوب.
بصوت مكسور ينم عن حسرة وغصة في القلب تقول: «نعم تعرضت للتمييز ومرات للإقصاء، هل لأنني من ذوي الامتيازات الخاصة كما أحب أن أعوض تلك الكلمة الجارحة (معاق)،أم لأنني امرأة تشق الطريق وحدها وعصامي في عالم الأدب»، هكذا ردت ابتسام الحمري، شاعرة وكاتبة مغربية، بعدما طرحنا عليها سؤال: هل عشت الإقصاء في مجال يتسم بكلما هو جميل وراق، يصعب حتى تصديق وجود مثل هذه الممارسات داخله
ورغم صغر سن ابتسام الحمري، فإنها استطاعت أن تكون لنفسها قاعدة جماهيرية من المثقفين والمتذوقين للأدب، واستطاعت رغم ظروفها الصحية تحدي الكثير من العراقيل في حبالأدب والقوافي.
«أتذكر مرة في إحدى المجموعات الخاصة بالمثقفين والأدباء العرب والمغاربة، كيف حط أحدهم من قدري، بعدما علقت على موضوع كان آنذاك موضع نقاش، قائلا: ‘‘كيف لك أنتتحدثي في موضوع صعب على امرأة’’» تحكي ابتسام واحدا من المواقف التي تعرضت لها وأحست بأنها أقصيت بسبب جنسها، مع تجميل السبب من لدن المثقف الذكوري.
الأدب النسائي.. مصطلح ذكوري وعنصري ضد المرأة
لقد عرف مصطلح الكتابة النسائية جدلا واسعا منذ ظُهورِهِ، وحامت حوله العديد من الإشكالات، فالتسمية أبانت عن تصنيف صريح للأدب ينطلق من الاختلاف الجنسي، رغم أنالأدب واحد، يجب ألا يخضع لمعايير خارجية تتسم بالغرابة عن كينونته.
بين مؤيد ومعارض لهذا الإصرار على قولبة الإطار الأدبي استنادا إلى الجنس، ترى رشيدة بنمسعود، الأديبة والسياسية، أن «تبني هذا المصطلح لا يعبر عن نظرة تجزيئية للأدب،بل هو سعي إلى كشف الجرح الأنثوي الذي يسكن الكتابة النسائية وقواعد لعبة الانتماء، وذلك من خلال فعل الكتابة». أما بالنسبة إلى القصاصة والروائية، خناثة بنونة، فمن خلالحوار أجراه معها الكاتب بول شاوول، حول وجود أدب نسائي في المغرب، صرحت بأنها تعتبر هذا التصنيف عنصريا ضد المرأة ورجاليا، وذلك لأنه يسعى إلى إبقاء تلك الحواجزالحريمية الموجودة في عالمنا العربي وترسيخها وتدعيمها حتى في مجال الإبداع.
وفي رد لها على سؤال آخر يتعلق بمبررات وجود مصطلح «الأدب النسائي» في الواقع الراهن، قالت بنونة: «إذا أخذنا وجهة النظر هذه يكون التصنيف مبررا. لكن عند الجيلالجديد الذي يحمل أفكارا متطورة ويقوِّم الوضع ضمن متطورات واقعية وحديثة، يصبح الإبقاء على هذه التصنيفات نوعا من الظلم للمرأة وإدانة لهم».
لكن، بالرغم من تحقيق طفرة في مجال حقوق الإنسان والسعي المتواصل إلى إحقاق المساواة بين الجنسين في شتى مناحي الحياة، مازلنا نشهد سلوكات تخرق القاعدة التي هرمنامن أجل بنائها، ورغم كل تجارب المرأة في الأدب مولية ظهرها للإقصاء والقمع الذكوري، نجد أن المرأة الكاتبة مازالت تعيش التصنيف بين القلمين.
«روح المبدع الحقيقي عند الرجل هي نفسها عند المرأة، تلك الروح التي تعاند، تثابر، وتلتزم، تصر أن يكون الإبداع هو قضية حياتها، قضية وجود.. فأنا أكتب إذن أنا موجود،والتزامها نحو ذاتها ونحو الحياة»، كلمات تلخص من خلالها الكاتبة وفاء مليح وجهة نظرها في الكثير من المصطلحات التي ظهرت فور بداية تناسل الأقلام الأنثوية في مجال الأدببالمغرب والعالم العربي.
المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه
يسجل قطاع النشر في المغرب، منذ ستينيات القرن الماضي، هيمنة ذكورية، ويرجع ذلك إلى نوعية المواضيع المطروحة، فالكاتبات آنذاك لم يستطعن التجرد من وصاية المجتمع وكسرالطابوهات، سواء تعلق الأمر بهن أو بمجتمعهن، بل واتهمت المرأة التي تتجاوز الخطوط الحمراء في كتاباتها واقتحامها المناطق المحرمة بأنها باحثة عن الشهرة وحسب، في تبخيسلما تحمله من قضية وايدولوجيا. فاضطرت كثيرات إلى توقيع أعمالهن بأسماء مستعارة خوفا من الإفصاح عن هويتها، كحالة الكاتبة ليلى أبو زيد، حيث صرحت في مقابلة صحافية بأنها لم تكن لديها الجرأة الكافية على توقيع أول مقالاتها باسمها، وعند إصدارها أولى رواياتها تركت بلدة البطلة دون اسم، لأنها بلدتها، فيما نرى أن الكتاب المغاربة لم يبدوا تخوفامن التصريح بآرائهم السياسية المزعجة للنظام، والخروج عن المألوف في القوالب الأدبية الكلاسيكية، كروايات محمد شكري التي اتسمت بالعنف اللفظي والصور الخادشة. غير أنهقد ارتفع عدد النساء الكاتبات إلى أكثر من مائة، بعدما كانت أعدادهن تحصى على الأصابع في الثمانينيات، وحسب الكاتب المغربي إبراهيم الحجري، فقد استطاعت الكاتبة المرأة،التعبير عن طبيعة احتياجات جسد المرأة، وتحولاته طبقا للسن وإكراهات المجتمع، وصورن ما يتعرضن له من تعسف جسدي وقهر غريزي يصادران رغباتهن ويقصيان إنسانيتهن.
وإذا كانت سلطة المجتمع قد خفَّت بفعل تغيرات العصر ولو قليلا، فإن سلطة العائلة والوصاية الذكورية لم تنحل بعد. «وصال»، وهو اسم مستعار لم ترض صاحبته أن نذكر هويتها،فتاة في عقدها الثاني، بسيطة، توحي ملامحها بمأساة تفوق عمرها، تنحدر وصال من أسرة محافظة جدا حسب وصفها، قبلت أن تشاركنا تجربتها في إقناع والدها بالسماح لهابنشر روايتها التي قوبلت بالرفض والتهديد.
«مابغاش وقاليا واش هادشي علاش قريتك؟ عندما قرأ أبي فصولا مما كتبت، ثار في وجهي واتهمني بالجنون، فقط لأن روايتي تحمل أفكارا مناقضة لما يؤمن به، وتنتقد المجتمعوالدين وتمجد الحب والحرية، وتنتقد أحكام الناس على غيرهم وعيشهم تحت عمامة الرب، وهم ليسوا الرب لإصدار أحكام على أمثالهم من البشر، غير أن أبي لم يكن يختلف عنهمفي شيء. واكتشف بعد ذلك بأنني قمت بنشر أجزاء منها على صفحتي بالفايسبوك، فأمرني بحذفها وعاقبني بحرماني من هاتفي مدة شهر».
«وصال» هي فقط مثال للتعسف الذي عاشته وتعيشه المرأة قبل أن تصير تلك الكاتبة التي تتباهى بتدفق السحر من بين أصابعها، سواء كان من الأسرة أو المجتمع أو دور النشر،فالمجال لايزال يقيم حدودا وهمية لمنع المرأة من التجرؤ على الأطلال التي تأبى الوقوع في المتخيلات الرجعية.
وضع الأديبات المغربيات مقارنة بالرجل
يقول عبد المجيد سباطة، روائي ومترجم مغربي، في حوار خصَّنا به، إن «للمرأة المغربية الكاتبة مكانة مشرفة في المجال الأدبي المغربي والعربي». وقد رصد سباطة مسار تطورمكانة المرأة في الساحة الأدبية المغربية منذ بزوغ فجر الاستقلال إلى الآن، مع أولى التجارب النسائية التي وقعت باسم الرائدة خناثة بنونة، لتفتح الباب على مصراعيه لتجارب أدبيةأخرى.
«أما الحديث عن مقارنة بين وضع المرأة الأديبة ووضع الرجل، فطبعا اليوم لها كل الحقوق والمركز الذي يحظى به الأدباء، فقد استطاعت عدة أسماء مغربية نسائية أن تحظى بشهرةواسعة بفضل إصداراتها المتميزة، كفتيحة مورشيد ولطيفة باقة على سبيل المثال لا الحصر». وأضاف الكاتب المغربي أن التمييز أو الإقصاء الذي شهده في الساحة الأدبية بحكمانتمائه إليه، قد سجل ضد الفتيات في مقتبل مسيرتهن الأدبية، فطريق الأدب بالمغرب شاقة على الجنسين معا، غير أن النساء يتعرضن لأشكال أخرى من التمييز نظرا إلى طبيعتهنالبيولوجية، وهو الشيء المرفوض أخلاقيا ومهنيا، ولا ينبغي السكوت عنه. كما أن عبد المجيد سباطة يمقت كل أنواع التمييز، بدءا من مصطلح الكتابة النسائية، حيث يؤمن بأن الكتابةالأدبية مترفعة عن الجنس، ولا يعتقد بوجود كتابة أدبية رجالية وأخرى نسائية، فالأدب واحد، فيه المتميز وفيه الرديء بغض النظر عن الجنس.
ورغم كل ما عانته المرأة العربية والمغربية من اضطهاد وتضييق لمنعها من التميز في عالم الأدب، ورغم محاولات السُلطِ الذكورية قتل روح الإبداع فيها، فإنها أشهرت قلمها عاليا،وافتضت بكارة بياض الصفحة، وامتطت صهوة الكتابة وسارت في رحلتها وحيدة، تسللت إلى العراء لتمنح الحرف مُهجتها وجِرْمها، وأعلنت قصة العشق المغضوب عليها، ومارستالحب أمام ناظري المُفتون، وشنت حروبا ضد القيم الموروثة والأعراف، وأباحت لنفسها التمرد وكسر كلمة العادات، وكلها رجاء أن يكف التمييز ضد النساء في الأدب، كما في باقيالمجالات.
*طالبة صحافية.