في مثل هذا اليوم من عام 1944، أي 11 يناير، وجّه مجموعة من قادة الحركة الوطنية المغربية، وثيقة تطالب السلطات الفرنسية، لأول مرة وبشكل رسمي، بمنح المغرب استقلاله وإنهاء معاهدة الحماية، بعدما كانت المطالب تقتصر في السابق على بعض الإصلاحات. خطوة أعقبتها حملة القمع والاعتقال والاستنطاق التي طالت الزعماء، سرعان ما أثارت غضب القواعد الشعبية، لتندلع المظاهرات والاحتجاجات، وخرجت أعنفها بالعاصمة الرباط، بعد شيوع خبر اعتقال الزعماء الوطنيين بسجن العلو. لتجتاح المظاهرات شوارع المدينة مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين ورافعة شعار الاستقلال.
هناك العديد من المناسبات والأعياد التي تنعت بالوطنية تتخلل شهور السنة لدى المغاربة، وبغض النظر عن المغالطات والروايات المبتورة التي تلف بعض التواريخ ودلالات الوقوف عند مناسبات بعينها، إلا أن جل هذه المناسبات تحيل على محطات مرجعية و”تقليدية”، من قبيل عيد الاستقلال والعرش والمسيرة الخضراء… لكن لماذا الاحتفال بيوم 11 يناير؟ وما معنى هذه الذكرى عدا الحصول على يوم عطلة أو إطلاق اسمها على بعض الشوارع والأزقة؟
المغاربة يريدون أكثر من الإصلاح
رغم الطابع اليقيني الذي تحاول الرواية الرسمية لذكرى 11 يناير إصباغه على هذه المناسبة، إلا أن كل محاولات تعميق البحث وتقليب صفحات هذه المرحلة من تاريخ المغرب، تعيدنا الى طرح الأسئلة التقليدية من قبيل من صنع تلك المرحلة بالضبط؟ ولماذا جرت الأمور على ذلك النحو تحديدا؟ ولماذا الإصرار على الاحتفال بالذكرى السنوية لهذا الحدث…؟
القيمة التاريخية لتلك الوثيقة وبعدها الاحتفالي جاءت، رسميا على الأقل، من كونها كانت أول تعبير رسمي وموثق عن نية المغاربة القطع مع معاهدة الحماية، والتطلع بذلك إلى وضع جديد في علاقات المغرب وفرنسا، وضع يميزه على وجه الخصوص ما راكمه الوطنيون المغاربة من مطالب إصلاحية وسياسية، ظلت تقف عند خط أحمر هو معاهدة الحماية وما تعنيه من تبعية مغربية لسلطة فرنسا.
فتلك الوثيقة طالبت صراحة بإلغاء معاهدة الحماية ومنح المغرب عضوية عصبة الأمم، المنظمة التي ستصبح منظمة الأمم المتحدة. وما منح هذه المبادرة حساسية بالغة، رغم تواتر المطالب الإصلاحية ودعوات الوطنيين إلى إشراكهم في تدبير البلاد وفق توافق جديد يتجاوز معاهدة الحماية، أنها جاءت عاما واحدا بعد مؤتمر أنفا، والذي التقى خلاله السلطان محمد بن يوسف كلا من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، ورئيس الحكومة البريطانية وينستون تشرشل. فما الذي جرى خلال هذا المؤتمر؟
السلطان محمد بن يوسف كان وقتها آخذا في الدخول تدريجيا على خط الوطنيين المغاربة، ولم يفلت فرصة هذا الاجتماع التاريخي، وانتزع وعدا أمريكيا-بريطانيا، بإعادة النظر في الوضع السياسي للمملكة الشريفة، اعترافا بمساهمتها الى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، المنتشي بدور جيشه الحاسم في إنهاء الحرب العالمية لصالح الغرب، لم يتردد على مائدة عشاء بأنفا، روى تفاصيله الراحل الحسن الثاني، في أن يطالب الفرنسيين والبريطانيين بتغيير سلوكهم الاستعماري، والاستعداد لمنح الشعوب فرصة تقرير مصيرها، وذلك كله جرى بحضور الأمير مولاي الحسن، الذي كان يتفحص ملامح الضيوف الأنكلوساكسونيين الغريبة.
وثيقة 13 يناير أيضا
لم تكن فرنسا الخارجة لتوها من تحت الاحتلال الألماني، لتنظر إلى هذه الخطوات بعين الرضا، وبفعل علاقاتها الوطيدة بالحلفاء الغربيين، لم يكن لـ”وعد أنفا” أي تأثير في علاقات باريس بالرباط، في اتجاه الاستجابة لمطالب الوطنيين. لذلك كان لخطوة إخراج وثيقة المطالبة بالاستقلال بعد استراتيجي، لما تعنيه من إصرار ووضع أمام الأمر الواقع. كما كانت الوثيقة أول تعبير مغربي عن مطلب الاستقلال، بعد سنوات من المطالب “الإصلاحية” فقط، والتي كان قادة الحركة الوطنية يشهرونها في وجه المستعمر.
يقود التنقيب التاريخي في حقيقة وملابسات هذه الوثيقة إلى معطيات كثيرة يصعب التمييز فيها بين الحقائق والمغالطات. فبعض الكتابات تسرد لائحة لـ”وثائق المطالبة بالاستقلال”، منها ما يعود الى 1931. لكن كل ما ارتأت الإرادة الرسمية الاحتفاظ به هو وثيقة 1944. ففي كتابه “المغرب من معاهدة فاس الى التحرير”، يتوقف مولاي عبد الهادي العلوي عند هذه المحطة بكثير من الحذر، ليخلص الى أن كتابة تاريخ هذه المحطة، يظل رهينا بالكشف عن الأرشيف الرسمي لكل من المغرب وفرنسا، وهو ما يعني الانتظار لعقود أخرى.
لكن ولسوء حظ النسخة الرسمية من تاريخ هذه المرحلة، فإن وثيقة أخرى للمطالبة باستقلال المغرب وجدت شهودا يؤكدون وجودها. وهي وثيقة 13 يناير 1944. وينطوي الأمر هنا على مخلفات صراع حزبي جعل الوثيقة وثيقتين على الأقل. تفاصيل هذا الصراع رواها عبد الهادي بوطالب الذي كان حينها أستاذا بالمعهد المولوي حيث يدرس الأمير مولاي الحسن.
بوطالب الذي سيصبح مستشارا للحسن الثاني، يعتبر أن حزب الاستقلال أراد الانفراد بهذه المبادرة. لذلك كانت زيارة الاستقلاليين له بالمعهد المولوي داخل القصر الملكي مقتضبة. حيث تم إطلاعه على فحوى الوثيقة، و”رغبتهم” في الحصول على توقيع ممثلي “الحركة القومية”، والتي ستصبح “حزب الشورى والاستقلال”. وعندما ذهب ليوقع قيل له إن الوثيقة غير جاهزة. وبعد عودته مرة أخرى، أخبره الاستقلاليون أن محمد بن الحسن الوزاني، رئيس الحركة القومية والذي كان حينها منفيا كما هو حال علال الفاسي، رفض الصيغة المقترحة.
الراحل عبد الهادي بوطالب اتهم خلال مشاركته في برنامج “شاهد على العصر” بقناة “الجزيرة، حزب الاستقلال بمنعه ضمنيا من توقيع وثيقة 11 يناير 1944 المطالبة بالاستقلال، وقال إن أعضاء حزب الاستقلال فعلوا ذلك بسبب انتمائه لتنظيم سياسي آخر هو حزب الشورى والاستقلال، والذي كان حينها يحمل اسم “الحركة القومية”. ولم يتردد عبد الهادي بوطالب في الإقرار كذلك بأن حزب الاستقلال كان يقلم أظافر الأحزاب الأخرى على حد تعبيره، وقال بوطالب إن توقيع كوادر حزب الاستقلال فقط على وثيقة 11 يناير جعل المقيم العام ينتقد تلك الوثيقة بسبب غياب تمثيلية المكونات السياسية الأخرى فيها، وأضاف بوطالب بأن محمد الخامس لم يوقع الوثيقة لأنه أراد أن تكون وثيقة شعبية تعبر عن مطالب الشعب.
المؤكد أن محمد بن الحسن الوزاني اعتبر المطالبة بالاستقلال في تلك المرحلة بالضبط، أشبه بالطعنة في ظهر فرنسا الخارجة لتوها من الحرب، وطالب بمراجعة بعض العبارات. لكن الاستقلاليين انتهزوا الفرصة، وسارعوا الى اعتماد الوثيقة دون أي توقيع من خارج الحزب. لكن الروايات تتضارب مرة أخرى، حيث ينقل بعضها أن مفاوضات عسيرة جرت بين الحزبين، وفشلت بسبب خلافات حول الصيغة النهائية، وترتيب الموقعين، من يكون في البداية ومن يتذيّل الترتيب.
«ثورة» 29 يناير
رد السلطات الفرنسية على رفع سقف المطالب ليلامس التطلع الى الاستقلال لم يكن وديا، بل سارعت إلى اعتقال كل من الهاشمي الفيلالي وأحمد مكوار وعبد العزيز بن إدريس العمراوي، الثلاثة الذين سهروا على الإعداد لوجيستيكيا لحدث تقديم الوثيقة، بما يفرضه ذلك من تعبئة للخلايا وحشد للطلبة والحرفيين. و”بكوميسارية دار الدبيبغ بالمدينة الجديدة لفاس، تعرضوا لكافة أنواع التعذيب والتنكيل والإهانة من ضرب وإصابة بالكهرباء، وغطس في الماء وتعليق من الأرجل وإنهاك عصبي وترهيب نفسي بقصد إرغامهم على البوح بأسرار وتنظيمات حزب الاستقلال، ومصادر تمويله، وعلاقاته الداخلية والخارجية”، حسب ما ورد في مؤلف “المعذبون الثلاثة” لصاحبه المهدي بنحدو. قبل أن يلتحقوا بسجن العلو بالرباط، حيث وجدوا الأمين العام لحزب الاستقلال، أحمد بلافريج، رهن الاعتقال.
حملة القمع والاعتقال والاستنطاق التي طالت الزعماء، سرعان ما أثارت غضب القواعد الشعبية. لتندلع المظاهرات والاحتجاجات. خرجت أعنفها بالعاصمة الرباط، بعد شيوع خبر اعتقال الزعماء الوطنيين بسجن العلو. لتجتاح المظاهرات شوارع المدينة مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين ورافعة شعار الاستقلال.
الأمير مولاي الحسن الذي كان حينها تلميذا بالمعهد المولوي لم يتمالك نفسه، فقفز فوق سور المعهد ليلتحق بالمظاهرات. حدث رواه الملك الراحل في كتاب “ذاكرة ملك” بكثير من الحنين، رغم أنه جلب عليه توبيخ والده السلطان محمد بن يوسف، لما سببه هذا الأمر من حرج كبير مع الفرنسيين. فالأمر لم يقتصر على مظاهرات، بل تطور الى محاصرة القوات الفرنسية للمدينة، وإطلاقها النار على المتظاهرين بذريعة مقتل أحد المواطنين الأوربيين. فأصبح الأمر مواجهة دامية خلفت العديد من القتلى، اتسعت رقعتها لتشمل مدنا مغربية أخرى مثل مراكش ومكناس وفاس.
الاستقلال من فرنسا والديمقراطية من السلطان
الوثيقة التي تحظى بالاحتفاء السنوي، تسمى بوثيقة المطالبة بالاستقلال. هذا صحيح، لكن النص الذي حمل توقيع 67 شخصا من بينهم امرأة واحدة (مليكة الفاسي)، لم يكن موجها للسلطات الفرنسية فقط، بل إن وفد الوطنيين قدم نسخة من الوثيقة إلى السلطان محمد بن يوسف. فالوطنيون فكروا في مرحلة ما بعد تحقيق مطلب الاستقلال، وبعدما طالبوا فرنسا بمنحهم الاستقلال، دعوا السلطان إلى إقامة نظام “شوري”، أي ديمقراطي بلغة العصر.
فـ”حزب الاستقلال يلتمس من جلالته أن يشمل برعايته حركة الإصلاح التي توقف عليها المغرب في داخله، ويكلُ لنظره السديد إحداث نظام سياسي شوري شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية الإسلامية بالشرق، تحفظ فيه حقوق سائر عناصر الشعب وسائر طبقاته، وتحدد فيه واجبات الجميع”، يقول نص الوثيقة.
وهذا الجانب من مضمون الوثيقة الذي يطاله التهميش، يعكس بعدا آخر من الصراع المبكر الذي كان يسود بين الفرقاء السياسين المغاربة منذ الإرهاصات الأولى لتشكل الهوية الوطنية الحديثة. وقد يساعد في فهم أوضاع المملكة الشريفة بعد حصولها على الاستقلال، والصراعات التي سرعان ما نشبت بين القصر والأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية.