فاجعة طنجة.. "اليوم 24" يتقصى "السرية" التي لا يخلو منها حي- وثائق

12 فبراير 2021 - 19:00

عرت فاجعة طنجة، التي أودت بحياة 28 عاملا في وحدة لصناعة النسيج، وصفها مصدر من السلطات المحلية في المدينة بـ”السرية”، جزءً من الواقع البئيس، الذي يكابده الآلاف من العمال في المئات من الأقبية، و”الكراجات” وسط الأحياء، المأهولة على مرأى، ومسمع الجميع في رحلة البحث عن لقمة عيش “ملغمة.

ولم يقتنع كثير من المغاربة بوصف السلطات المصنع بـ”السري”، إذ طرحوا أكثر من علامة استفهام حول حقيقة هذا التوصيف.

ووفق معطيات، حصل عليها “اليوم 24″، فإن المصنع، الذي بات يعرف بـ”مصنع الموت”، ليس إلا واحدا من بين المئات من الوحدات الصناعية المشابهة، التي لا يكاد يخلو حي منها، إذ إن مصادر مهنية، وجماعية قدرتها بالمئات.

وأكد مصدر من جماعة طنجة لـ”اليوم 24” أن عدد الوحدات الصناعية المشابهة للمصنع حيث وقعت الفاجعة، كان يفوق 200 مصنع في حدود عام 2016، بينما سجل (ي.ط)، وهو صاحب مصنع في أحد الكراجات في حي “بير الشفا” الشعبي، أن هذا الرقم “لا يعكس حقيقة حجم هذا النوع من الورشات”، مؤكدا أن المعدل يمكن أن يكون ضعف ذلك، انطلاقا من تجربته، واحتكاكه بالقطاع.

فهل كان “مصنع الموت” سري فعلا؟

قصة المعمل “المشؤوم”

يقع المعمل، حيث كتبت نقطة النهاية المأساوية لـ28 عاملا وعاملة، في منطقة مأهولة، تطل على شارع رئيسي في المدينة، وشهد تغييرات مهمة في إطار مشروع طنجة الكبرى، كما تعاقب على استغلاله عدد من الأشخاص، منذ أزيد من 15 سنة، وسط المباني، التي أقيمت في منطقة غير صالحة للبناء في الأصل، وفق مصدر من جماعة طنجة، نظرا إلى أنها كانت مجرى لواد السواني.

وتشير المعطيات، والوثائق، التي حصل عليها الموقع، إلى أن صاحب شركة “A&M confection” عادل البليلي، الذي نجا بأعجوبة من الغرق في الحادث، يتوفر على سجل تجاري، مسجل بتاريخ 15/02/2017، يحمل اسم الشركة، وعنوان المحل، الذي غمرته المياه.

5ووقع صاحب الشركة، التي وصفت بـ”السرية” عقد كراء تجاري مع صاحب المحل، الكائن بتجزئة أناس، طريق الرباط رقم 16، وهو عبارة عن “كراج” في الطابق الأرضي، وذلك لاستغلاله من أجل مزاولة نشاط خياطة الملابس الجاهزة، ابتداء من 1 فبراير 2017، بمبلغ قدره 12 ألف درهم، ويحمل العقد ختم مقاطعة بني مكادة، التي يقع المحل المذكور في مجالها الترابي، مصادق عليه بتاريخ 17 يناير 2017.

ويتوفر صاحب الشركة المعني بالأمر على، “ICE” وهو رقم التعريف الموحد للمقاولات، والمسجل تحت رقم: 00186180000033، برأسمال يقدر بـ100.000 درهم، وهو ما تبينه الوثائق.

1

2

وحصل “اليوم 24” على معطيات أخرى، تجعل موضوع “السرية” على المحك، إذ إن أحد العمال الناجين من المعمل المنكوب، أكد أنه استفاد رفقة عدد من زملائه من الدعم، الذي خصصته الحكومة لدعم المقاولات في ظل جائحة كورونا، بعد فرض الحجر الصحي الشامل، والتي امتدت إلى ثلاثة أشهر، بل أكثر من ذلك، أكد عمال في المصنع نفس أن غالبية الطلبيات، التي يشتغل عليها كانت توجه إلى التصدير نحو الخارج.

وقال القائم على الإنتاج في المصنع، في مقابلة مع الموقع: “نشتغل عن طريق المناولة لفائدة الشركات الكبرى، التي تتعامل مع السوق الخارجية”، وأوضح “أتذكر أن جل الطلبيات كانت توجه إلى الخارج، ومن العلامات التجارية، التي اشتغلنا لفائدتها عن طريق المناولة نجد الشركة “زارا” الشهيرة”.

وبين المتحدث نفسه أن المصنع اشتغل، خلال أواخر أبريل، وبداية ماي الماضيين، على إنتاج، وتصنيع الآلاف من الكمامات، ووزرات الأطباء، الموجهة إلى التصدير، قدرها بحوالي 20 ألف كمامة، والمئات من الوزرات الطبية.

وفي السياق ذاته، أكد تقني إصلاح آلات الخياطة في المعمل، عبد الرحيم الغطفاني، أنه التحق بالمصنع، منذ سنة ونصف السنة، وكان مصرحا به في صندوق الضمان الاجتماعي، واستفاد، بدوره، من الدعم المخصص لجائحة كورونا، ما يعني أن المعمل “السري” كان من ضمن المقاولات، التي استفادت من الدعم المخصص للجائحة.

3 4

غياب رخصة “الاستغلال”

المعمل المذكور لا يتوفر على رخصة استغلال خاصة بالمحل، الذي كان يزاول فيه صناعة النسيج، الأمر الذي أكده أحمد الطلحي، رئيس لجنة التعمير وإعداد التراب والمحافظة على البيئة في جماعة طنجة.

وأفاد الطلحي، في حديث لـ”اليوم 24“، أن المصنع الذي غمرته سيول الأمطار “غير قانوني من ناحية مجال التعمير”، موضحا أن ظاهرة استغلال “الكراجات”، والأقبية” في صناعة النسيج في مدينة طنجة “واسعة الانتشار، ورخصة الاستغلال لا تمنحها الجماعة، إلا بناء على مجموعة من الشروط، التي تحسم في إمكانية احتضان الفضاء للنشاط الاقتصادي المطلوب أم لا”.

وأكد المسؤول الجماعي نفسه أن عدم التوفر على رخصة الاستغلال، يمثل “حالة عامة بالنسبة إلى جميع أصحاب المصانع، والورشات، التي لا يخلو حي منها”، معتبرا أن صاحب المصنع كان يعمل بشكل “قانوني بالنظر إلى قانون تأسيس الشركات، والمقاولات من ناحية التأسيس، والتسجيل، والأداء الضريبي، والتصريح بالعمال، لكنه أصبح خارج القانون بالنظر إلى المكان غير المرخص له، لأنه يزاول نشاطا قانونيا بالنسبة إلى قانون المقاولات، ولكنه غير قانوني لاستعماله هذه الوحدات الصناعية في الأحياء السكنية، والبنايات المعدة للسكن”.

وحول حدود مسؤولية مفتشي الشغل في الحادث، قال مصدر حكومي، إن مفتشي الشغل لا يمكنهم القيام بمهام التفتيش، إلا في حالتين، مبينا أن المعطيات المتوفرة تؤكد “عدم التقيد بمقتضيات المادة 135 من الكتاب الثاني، المتعلق بشروط الشغل، وأجر الأجير من مدونة الشغل”، الذي ينص على أنه “يجب على كل شخص، طبيعيا كان أم اعتباريا، ويخضع لمقتضيات هذا القانون، ويريد فتح مقاولة، أو مؤسسة، أو ورش، ويشغل فيه أجراءً، أن يقدم تصريحا بذلك إلى العون المكلف بتفتيش الشغل، وفق الشروط، والشكليات المحددة بنص تنظيمي.

ورأى المصدر ذاته أنه “حتى لو كان صاحب المعمل يصرح بالأجراء في الضمان الاجتماعي، فإن ذلك لا علاقة له بجهاز التفتيش، الذي تبدأ حدود مسؤولياته بوجود تصريح لصاحب الشركة، أو شكاية من أحد العمال”، مبرزا أن مفتشي الشغل ”سيساءلون إذا ثبت تلقيهم شكاية من أحد العمال، من دون أن يقوموا باللازم، بغض النظر عن مدى وجود تصريح صاحب الشركة”.

وزارة الداخلية

أمام الوضع، تبرز مسؤولية وزارة الداخلية وممثليها عن الوضع، الذي أدى إلى تفريخ المئات من مصانع النسيج تحت أنظارها في مجموعة من المدن، من أبرزها طنجة والدار البيضاء وسلا وفاس، وشكلت مساءلة وزيرها عبد الوفي لفتيت في المجلس الوزاري من قبل الملك محمد السادس، إشارة دالة على ذلك.

وبدا مثيرا شكل تعاطي سلطات وزارة الداخلية مع حادث طنجة، إذ لم تصدر أي بلاغ رسمي بشأن الحادث وفضلت “الاختباء” وراء مصدر من السلطة المحلية في المدينة، في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية وصف فيه المصنع بـ”السري”، ما أجج غضب المغاربة.

وبعد يومين من الحادث، دشنت السلطات المحلية حملة إغلاق في صفوف “الكراجات”، و”الأقبية”، التي توظف في صناعة النسيج، وأكدت مصادر مهنية لـ”اليوم 24″ في المدينة، أن دورية تابعة للسلطات المحلية أمرت العديد من أرباب هذه المصانع المنتشرة في المدينة بإغلاقها من دون تقديم أي تفاصيل، أو مبررات للقرار.

وأكثر من ذلك، أكد مصدر حكومي لـ”اليوم24” أن السلطات المحلية في سلا، والدارالبيضاء، أقدمت على تنفيذ حملة مماثلة لما شهدته طنجة، خلال اليومين الماضيين، وأمرت بإغلاق مجموعة من المحلات، التي لها نفس وضع مصنع طنجة المنكوب، وهو ما يجعل صفة “السرية” محل شك، ويؤكد أن هذه المعامل تشتغل تحت أنظار السلطات.

استقرار واستغلال

ماذا يكسب المغرب من وراء المصانع “السرية”؟ سؤال يطرح نفسه بقوة على جميع المتدخلين، والمسؤولين، فوفق إحصاءات رسمية، أكد مصدر مهني، فضل عدم ذكر اسمه، أن قطاع النسيج في البلاد يشغل 600 ألف عامل ثلثهم يشتغلون في مصانع مشابهة لوضعية مصنع طنجة، ما يعني أن هذا النوع من الشركات يؤمن فرص عمل لآلاف الأسر في مختلف المدن الكبرى، وأحيائها الفقيرة، وهو ما يجعلها عنصرا فاعلا في تحقيق السلم، والاستقرار الاجتماعي.

وأكد مصدر مسؤول في مركزية نقابية، لم يرغب في ذكر اسمه لـ”اليوم24“، أنه في لقاء مع وزير داخلية سابق، أثير موضوع “حقوق العمال، الذين يشتغلون في مصانع، وورشات لها نفس وضعية مصنع “الموت” في طنجة، أو في وضع أسوء منه، تنتهك فيه حقوق العمال، ولا يتم التصريح بهم في الضمان الاجتماعي، بينما الدولة تراقب من بعيد، وتترك العجلة تدور”، فكان رد الوزير أنه “غير ممكن مطلقا إغلاقها، وقال بالحرف: “واش بغيتو الفوضى”، وفق المصدر المذكور.

لكن وضع المصانع، والورشات، التي لها نفس وضعية مصنع “الموت” في طنجة، لا تستفيد منه الدولة لوحدها، بل إن مهنيي القطاع يعتبرون أن شركات النسيج الكبرى الأكبر مستفيد منها، إذ تراكم أرباحا خيالية من وراء هذه الورشات غير الآمنة، وهو ما دفع أحدهم إلى وصف أصحابها بـ”الحمالة”.

وقال (ي.ط): “شوف أخاي؛ عادل (صاحب المصنع، الذي غرق فيه العمال)، وأمثاله مجرد حمالة، يتسلمون الطلبيات عن طريق المناولة من أصحاب المصانع الكبرى في المدينة، ويصنعونها، ويعيدونها لهم بسعر أقل”، الأمر الذي يبين أن هذه المصانع “السرية” في حقيقة الأمر تشتغل لصالح أرباب المصانع الكبرى.

ووفق شهادات لمهنيين، فإن مصانع النسيج الكبرى في المدينة تكون مضطرة إلى الاستعانة بمثل هذه المعامل، بسبب الطلبيات الكبيرة، والعقود، التي تربطها مع الشركات العالمية، فيدفعها ضيق الحيز الزمني إلى تسليم هذه الطلبيات إلى الاستعانة بالمصانع “السرية”، تفاديا لفقدان شركائها العالميين، وهو خيار سهل، وأقل كلفة مقارنة مع خيار توسيع الشركة، وتشغيل يد عاملة جديدة لتأمين طلبيات زبائنها من الشركات، والماركات العالمية.

وفي ظل المعادلة المذكورة، يبقى العامل الحلقة الأضعف، والأكثر عرضة للاستغلال، والمخاطر، التي تبلغ حد الموت، كما جرى في الحادث الذي هز البلاد، وخلف مآس، وقطع أكباد العشرات من الأسر على أبنائها، الذين ماتوا، وهم يبحثون عن منفذ يعصمهم من الماء، الذي أغرق كل شيء.

تفاصيل مرعبة للواقعة

يحكي محسن بودجاجة، البالغ من العمر 35 سنة، والمتحدر من قرية با امحمد في إقليم تاونات، لـ”اليوم 24″، تفاصيل القصة المرعبة لغرق 28 من زملائه في المعمل المذكور: “أنا المسؤول عن الإنتاج في المعمل وكنا في ذلك اليوم 35 شخصا في الطابق السفلي من المعمل، وبالكاد نجونا 6 أو 7 أشخاص”، موضحا كيف كانت رغبته في التدخين سببا في إنقاذ حياته، “إشعال سيجارة نجاه من المصير، الذي لاقاه زملاؤه، إذ إنه صعد لتدخين سيجارة، بينما غمرت المياه الورشة”.

وواصل الشاب المتزوج والأب لأربعة أطفال سرد تفاصيل اللحظات المرعبة، التي عاشها في تلك الفترة الوجيزة، ويده ترتعش، “كان الجميع يهم بالصعود، بعدما نادى عليهم أحد العمال، لكن مياه الأمطار تسربت بشكل رهيب، وأعادت الجميع إلى الأسفل ليقضوا غرقا في دقائق معدودة”.

وأضاف بودجاجة والحسرة بادية على محياه: “مر كل شيء بسرعة كبيرة. وسمعت الصراخ في اللحظات الأولى من غمر المياه المعمل، وفي ظرف 10 دقائق كان الأمر قد انتهى، وتوفي جميع من كانوا في الطابق السفلي، لأن مياه الأمطار غمرته بالكامل، ولا يوجد أي منفذ أو مخرج للنجاة”.

يتذكر ابن قرية با امحمد في إقليم تاونات كيف أفلت من يده أحد زملائه، الذين كانوا يحاولون مغادرة الطابق السلفي، إلا أن قوة التيار سحبته إلى الأسفل، وحال بينهما الماء، فكان من المغرقين، وقال بلكنته الجبلية: “محمد الشريف “فلت لي من يدي الخاوا” ونجوت من الموت المحقق بسبب الدخان (التدخين)”.

ضحايا وقصص

حكى الناجي، الوحيد، الذي عايش عن قرب اللحظات الأخيرة، قبل وقوع “الكارثة”، لـ”اليوم24” قصة الزوجين، اللذين توفيا في المعمل، وي من بين القصص، التي دفنت مع أصحابها، وقال إن “الزوج كان قد اقترب من مغادرة الطابق السفلي فتذكر زوجته الموجودة مع العالقين، فعاد إلى إنقاذها، إلا أنهما واجها قدرهما المحتوم”.

[youtube id=”Ek8tKoNVsqI”]

ومن بين القصص المثيرة، أيضا، في الحادث الأليم، غرق الأخوات الأربع، اللائي قضين دفعة واحدة في الحادث، بينما نجت والدتهن، التي كانت في الطابق العلوي من المصنع رفقة بعض الناجين الآخرين، وكانت إحداهن تعتزم عقد قرانها، في مارس المقبل.

وفي قصة أخرى لا تقل إثارة، أورد المتحدث ذاته أن إحدى العاملات تأخرت عن الالتحاق بالعمل في الوقت المحدد، في 7:30 صباحا، قبل أن تصل في حدود التاسعة إلى مقر العمل، وكانت الظروف عادية، لكن بعد 20 دقيقة بالضبط، لاقت قدرها المحتوم مع زملائها، وزميلاتها، كما سجلت الواقعة وفاة أحد الشباب رفقة ابن عمه، وذلك، في أول يوم عمل له.

ومهما بلغ حجم المأساة، فإن سيناريو تكرار مثلها يبقى واردا في أي حي من أحياء طنجة، أو المدن المشابهة لها، إذ اضطرت الظروف الاجتماعية الصعبة آلاف المغاربة للعمل في مقرات لا تحترم المواصفات اللازمة تحت أعين السلطات، التي تغض الطرف عن الكثير من الأمور الأساسية، وتفتحها أكثر من اللازم في قضايا تسمن، ولا تغني المغاربة في شيء.

فهل تكون مساءلة الملك محمد السادس وزير الداخلية في المجلس الوزاري حول واقعة طنجة، والتدابير، التي تم اتخاذها لتفادي تكرار مثل هذا الحادث، مدخلا للدفع نحو إيجاد حل نهائي لـ”العشوائية”، التي خلفت مآس متكررة؟، تساؤل سيكشف الزمان قدرة “التصور الأولي”، الذي رد به لفتيت على الملك، مدى جديته في القضاء على إمكانية تكرار “الفاجعة”.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

على منذ 3 سنوات

ملخص هذه المشاركة هو العشوائية في كل شيء

التالي