توفي المولى يوسف دون أن يرشح وليا لعهده. وتم تعيين سيدي محمد سلطانا رغم كونه أصغر إخوته الثلاثة ولم يتجاوز السابعة عشر من عمره وكان يفتقد للخبرة السياسية، وفي ظروف كان فيها الاستعمار ما زال يحاول تثبيت أركانه في المغرب، والمقاومة المسلحة مازالت مشتعلة في الكثير من مناطق المغرب رغم القضاء على المقاومة الريفية، كما بدأت تؤسس بعض الخلايا الوطنية من طرف بعض الشباب المديني المتعلم.
كان هذا السلطان محل رهان مزدوج بين نظام الحماية والحركة الوطنية. فالأولى كانت تريد، من خلال اختياره، الاستفادة من صغر سنه لتحويل الحماية إلى استعمار مباشر. أما الحركة الوطنية فقد راهنت منذ نشأتها على التحالف معه وكسبه للصف الوطني لتحسين موقعها في موازين القوى في إطار صراعها مع المستعمر. وفي هذا الصدد، اعتبر أبو بكر القادري أن الشباب الوطني كان واعيا بأن مواجهة الاستعمار لا يمكن أن تتم دون الوحدة بين الشعب والسلطان.
وفي هذا الإطار يندرج العمل الذي قامت به الحركة السلفية لدعم المشروعية الدينية والسياسية للسلطان الجديد وسلفه، باعتباره أميرا للمؤمنين، ومواجهتها للقوى الدينية الطرقية المنافسة له. وقد استكمل الشباب الوطني، الذي كون في ما بعد كتلة العمل الوطني، هذا العمل على المستوى السياسي بإعادة بناء الشرعية السياسية للسلطان واستمالته للمشروع الوطني.
وفي خطابه الأول قال السلطان الشاب: « إن الشعب المغربي، ينتظر منا مجهودا مستمرا، لا من أجل سعادته المادية وحدها، ولكن لنكفل له الانتفاع من تطور فكري يكون متلائما مع احترام عقيدته، ويستمد منه الوسائل التي تجعله يرتقي درجة عليا في الحضارة بأكثر ما يمكن من السرعة ». يستنتج مما ورد في بعض هذه الكتابات أن النخبة الوطنية استشفت في هذا الخطاب ميولات وطنية، لهذا سرعت من خطواتها للتقرب من السلطان الجديد والالتحام به..
واستبعدت بعض المذكرات، أن يكون محمد بن يوسف وعى حقيقة ظهير 16 ماي سنة 1930 ومقتضياته عندما وقع عليه، ونفت أخرى وجود ما يؤكد أنه أمضاه واعتبرت أنه قد يكون انتزع منه من طرق الإقامة العامة. وقد كانت مواجهة الظهير « البربري » مناسبة للحركة الوطنية لترسيخ نهجها تجاه السلطان والتواصل المباشر معه. فركزت على إبراز مخاطره على السلطة الزمنية والروحية للسلطان. لكنه أصدر خطبة قرأت في المساجد، نسبتها بعض المذكرات للصدر الأعظم المقري، تنتقد المحتجين. لهذا السبب أرسل الوطنيون بفاس وفدا منهم للقاء السلطان ليوضحوا له أبعاد الظهير. وخلال هذا اللقاء بكى السلطان متأثرا بخطاب ألقاه رئيس الوفد عبد الرحمن بلقرشي وزير العدل سابقا.
في هذا السياق قرر الوطنيون سنة 1933 جعل يوم 18 نونبر، الذي بويع فيه السلطان، عيدا وطنيا للعرش والاحتفال به كل سنة. وبمناسبة زيارته إلى فاس يوم 8 ماي سنة 1934 نظم الوطنيون مجموعة من الاحتفالات بالمدينة ليظهروا ولاءهم له، وأصدرت جريدة « عمل الشعب » عددا خاصا بهذه المناسبة. وعندما قدمت كتلة العمل الوطني برنامج الإصلاحات سنة 1934، حرصت على الاستشهاد فيه بالفقرة، التي أوردناها سلفا، من الخطاب الأول لمحمد بن يوسف. ولعلها كانت تريد أن تؤكد أن عملها الإصلاحي كان يتم من داخل شرعية السلطان وتنفيذا لتصوراته السياسية. وكان من بين أهداف هذا البرنامج، حسب علال الفاسي، استرجاع كل مظاهر السلطة ليد السلطان.
وفي مقابل هذه المساعي الوطنية، حرص السلطان، الذي تمرس على الحكم واكتسب تجربة وخبرة سياسية مع مرور الأيام والسنوات ولم يعد يرتضي لنفسه أن يكون سلطانا صوريا في يد الإقامة العامة، على التجاوب مع الوطنيين وبعث عدة إشارات تجاههم. فما إن أدرك الخدعة التي انطلت عليه في ظهير 16 ماي 1930، ربط الاتصال بالأوساط السياسية الوطنية. وبعد زيارته لفاس سنة 1934 استدعى قادة كتلة العمل الوطني لحضور « مجلس الوزراء » وعبر لهم عن سروره بزيارته تلك. كما أنه استقبل عددا من زعماء الحركة الوطنية. وفي أحد لقاءاته مع علال الفاسي، عمل هذا الأخير على توضيح الغاية من الحركة الوطنية فصرح له السلطان بأنه « راض كل الرضى عن كل ما من شأنه أن يساعد على تقدم البلاد وازدهارها ». وإضافة إليه، كان السلطان الشاب يعطف على الوطنيين المغاربة، ويعبر لهم عن ثقته فيهم رغم الدسائس التي كان يحيكها الاستعمار وكان يتابع باهتمام كبير ما يتعرضون له من قمع واضطهاد ويعبر عن مناصرته لهم وتضامنه معهم، وزيادة عليه، تجاوب بن يوسف مع المذهبية الدينية السلفية للحركة الوطنية وذلك برفضه الكلي السير في النهج الذي يسير فيه المشايخ الطرقيون، كما تجاوب مع الحركة الوطنية عندما قدمت مطالب الشعب المغربي سنة1934.
كان التصور السياسي للحركة الوطنية واستراتيجيتها الكفاحية يرتكزان على تحويل السلطان إلى رمز ديني وسياسي للحركة الوطنية. وتلخص قولة لأبي بكر القادري طبيعة العلاقة بين السلطان والحركة الوطنية خلال هذه الفترة. يقول، في سياق حديثه عن لقائه بالسلطان صحبة بعض وطنيي سلا سنة 1932: « لقد أعطاه الله شخصية جذابة، تجذب إليها القلوب والأرواح، فما رآه شخص إلا أحبه، وما تحدث إليه إنسان إلا قدره وهابه، تجلس إليه فإذا هو ملء سمعك وبصرك وإذا ابتسامته المشرقة، تستولي عليك استيلاء كليا، وإذا أنت تحبه، وتتفانى في حبه، وتطيعه وتتفانى في طاعته » أليس هذه الخطاب، الذي يجد مفراداته في الفكر الصوفي، تعبيرا عن تحول علاقة السلطان بالحركة الوطنية إلى علاقة الشيخ بالمريد. وهذا يعني أن الوطنيين أسسوا « الزاوية » الوطنية، كتنظيم بمرجعية سلفية، وجعلوا السلطان، سواء في مرحلة قيادتها الجماعية أو بعد انشقاقها وصراع زعاماتها، شيخا لها ووليا على رأسها ورمزا دينيا وسياسيا موحدا لها.
*مقتطف من كتاب « الذاكرة والتاريخ.. المغرب خلال الفترة الاستعمارية 1912-1965 » للكاتب عبد العزيز الطاهري أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس بالرياط