هذه أبرز خلاصات دراسة غير مسبوقة حول المبادرة، كشف عنها مركز «جاك بيرك» المتخصص في العلوم الاجتماعية بالرباط. الدراسة تكشف عن الوجه السياسي للمبادرة، وتبيّن كيف أنها منحت الأجهزة الترابية المركزية للدولة مشروعية جديدة، نظرا إلى كون المبادرة خاضعة لتدبير مركزي صارم، يتولى تنزيله محليا الولاة والعمال وباقي رجال السلطة. فيما باتت الجمعيات المستفيدة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، تنحو نحو «التكنوقراطية» والابتعاد عن الشأن السياسي، بل إن العديد منها كانت قبل المبادرة، تتخصص في تنظيم أنشطة إشعاعية وأخرى احتجاجية ونقدية تجاه الدولة، فباتت الآن تكتفي بإنجاز المشاريع وتلقي الدعم.
الدراسة التي اعتمدت على العمل الميداني وتحليل المعطيات؛ خلصت إلى أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، نجحت خلال السنوات القليلة الماضية، في خلق نموذج جديد للمواطن المغربي، المبادر والنشيط في تحسين وضعيته ووضعية محيطه الاجتماعي؛ لكنه نموذج لمواطن مرتبط بشكل مباشرة بالإدارة الترابية وحريص على حماية هذه العلاقة، ومبتعد عن العمل السياسي في إطاره الحزبي، سواء منهم النشطاء المدنيون الذين كانت لهم انتماءات سابقة في العمل السياسي، أو أولئك الذين أطلوا على الشأن العام من نافذة المشاريع التي مولتها المبادرة. كما حقّقت المبادرة، حسب الدراسة التي أنجزها مصطفى المناصفي، اختراقا مهما يتمثّل في إظهار وجه مختلف للمغرب، تبدو فيه الدولة كما لو كانت في علاقة ودّ غير مسبوقة مع المواطن والفاعل الجمعوي، وهي السمة التشاركية التي لم يسبق للمغرب أن أظهرها.
ثورة حقيقية حقّقتها المبادرة في علاقة المواطن المغربي بالإدارة، حيث كشفت الدراسة عن أن الكيفية والتوقيت اللذان انطلقت بهما، جعلاها تكرّس التوجّه السائد حينها، لإظهار القطيعة مع عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وإعطاء دلالات ملموسة لشعارات «العهد الجديد»، من خلال جعل الإدارة شريك للمبادرات التي يُقدم عليها المواطنون، حيث بات هؤلاء ولأول مرة في تاريخ المغرب الحديث، يعدون مشاريعهم وتصوراتهم ويقدّمونها لرجل السلطة الذي يساعد على تحقيقها وتمويلها.
«قائد المقاطعة، ممثل السلطات المركزية في الجماعة الحضرية، تحوّل إلى عامل للتنمية البشرية… وبات القائد يلعب دور المسهّل لمهام الفاعلين الجمعويين، لدرجة أن رئيس إحدى جمعيات الأحياء التي شملتها الدراسة، قال إنه استعمل في مرات عديدة سيارة قائد المقاطعة، في التنقل والعمل على تحقيق مشاريعه». وفيما مكّنت المبادرة من إدخال شريحة واسعة من النساء والشباب إلى حقل الفعل والمشاركة، فإن المفعول السياسي لهذا الإشراك كان مزيدا من إبعاد هؤلاء المشاركين من السياسة والانتماء الحزبي، حيث رصدت الدراسة عدة أسباب تَحُول دون مشاركة المستفيدين من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، في العمل السياسي، من قبيل الفساد وانعدام الشفافية الذي يرتبط بالسياسة، والمناسباتية وانعدام القرب في العمل السياسي، بالإضافة إلى عدم ثقة هؤلاء المشاركين في مشاريع المبادرة، في قدرة السياسة على تحقيق إنجازات ملموسة كما كان الشأن مع تمويلات المبادرة.
مسؤولو إحدى جمعيات الأحياء الناجحة التي شملتها الدراسة، حكوا لمعدّها مصطفى المناصفي، كيف أن سياسيين كانوا يحضرون لتأسيس حزب جديد، قاموا بالاتصال معهم ودعوتهم إلى الانضمام إلى تجربتهم الحزبية الجديدة. هؤلاء الجمعويون، أوضحوا أنهم وبعدما قبلوا الجلوس إلى السياسيين والاستماع إليهم، رفضوا الاقتراح مبررين ذلك لكون السياسيين هم أشخاص انتهازيون يريدون توظيف المصداقية التي حازتها الجمعية. في المقابل، كشفت الدراسة التي همّت في شقها الميداني كلا من الرباط والدار البيضاء، عن أن منتخبين محليين ومسؤولين في السلطات المحلية، سارعوا إلى تأسيس جمعيات من أجل الاستفادة من تمويلات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. بعض المنتخبين، عمدوا، حسب الدراسة، إلى تأسيس أربع إلى خمس جمعيات، من أجل تقديم مشاريع والاستفادة من تمويلات.
هذه واحدة من الدراسات الجديدة التي تبحث في الوجه السياسي للمبادرة الملكية في الحقل الاجتماعي والتي رأى فيها بعض الباحثين في وقت مبكر أنها خطة للبحث عن قاعدة اجتماعية جديدة للحكم الآن، الدراسة تكشف عن هذه الخطة بالأرقام والشهادات.