كيف فكك الفيلسوف الألماني «مارتن هيدغر» الميتافيزيقا؟ وإلى أي حد استطاع أن يبني فكرا فلسفيا حديثا متحررا من القيود الميتافيزقية الثاوية في الدين والتراث الفكري الإنساني عموما؟ وكيف عالج القضايا الراهنة التي طرحت على الإنسان الحديث، سواء الفكرية والثقافية منها كالحرية والوجود والحقيقة، أو السياسية والإيديولوجية والاقتصادية كالعولمة وقضايا الإيكولوجيا؟ تلك بعض الأسئلة التي طرحتها أشغال ندوة «هيدغر اليوم»، وحاولت الإجابة عنها طيلة يومي الجمعة والسبت الماضيين بمكتبة مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية.
تناول أول المتدخلين، الأستاذ محمد سبيلا، في محاضرته التي عنونها بـ»هيدغر ومفهوم الحداثة»، تصور هيدغر حول الحداثة، سواء في التفكير في تاريخ الحداثة، أو في نقدها وتفكيك أطروحاتها وتصوراتها، حيث يقول سبيلا إن الفيلسوف الألماني يميز بين تجليات الحداثة وجوهرها الفكري، مشيرا إلى أنها تتجلى عنده عبر مجموعة من الظواهر الأساسية منها: العلم، والتقنية، وتحول الفن إلى جمال مبني على الذوق الشخصي، والنظر إلى النشاط الإنساني من زاوية الفعل الإنساني، ونزع الطابع القدسي عن العالم، الخ.
من جهة ثانية، توقف سبيلا عن سمات الحداثة، التي يصفها هيدغر في فكره، حيث أبرز منها جانبين فقط. يتعلق الأمر بحديثه عن الحرية كسمة أساسية للحداثة، وحديثه عن الذات باعتبارها ماهية الحداثة. إذ يرى أن هيدغر جعل من الحرية رديفا للإرادة الذاتية الحرّة، حيث ينتصب الإنسان مرجعا ومستندا في معرفة ذاته. كما يرى أنه جعل ما يسميه بالحرية الجديدة حرية تتمثل في إحداث القطيعة مع هيمنة الكنيسة والدين والتصورات الدينية، مشيرا إلى أنه يعتبرها حرية متحررة من اليقين السماوي القائم على الخلاص الأبدي. ومثلما يرى ضرورة الانفصال عن اليقين الكنسي، يرى أيضا ضرورة التحرر من الامتثال الشامل للطبيعة واستقلال الفرد عن الجماعة وتنظيم علاقة جديدة معها في المقابل.
ورغم أن سبيلا يعتبر أن أحكام المهتمين بفلسفة هيدغر تبقى نسبية على اعتبار أنه لم يصدر من أعماله إلا الثلث حتى الآن، إلا أنه يقول إن كتاباته متداخلة وماكرة، حيث تتسم بدهاء فكري متعدد المستويات يقوم أساسا على التوسيم والتوصيف والتأريخ والتحليل، مشيرا إلى أن نقده للحداثة لا يعني رفضه لها. كما يرى أن هيدغر اعتبر الحداثة عصرا للعمومية والجماهيرية وغياب المعنية وسيادة الغوغاء وافتقاد القصد والوجهة وسيادة العبث، وكذا عصرا للفقر والعناء والانحطاط، موضحا أن هيدغر اعتبر أن العصر يفتقد للقوة الروحية، وأن الألهة أفلت، حيث انتقل الإنسان من عبادة المقدسات السماوية إلى تأليه مقدسات دنيوية مجسدة في الإيديولوجيات والزعماء وأبطال الرياضة ونجوم السينما والفن، الخ. كما اعتبر أن الحداثة تتميز أيضا بتخريب الأرض وتغول الإنسان، وبالحقد على ما هو خلاق وإيجابي. ومن جهة ثانية، تحول الإنسان، كما يستخلص سبيلا من فكر هيدغر، إلى بهيمة شغل، مشيرا إلى أن التقنية أحكمت سيطرتها اليوم على العالم، إلى درجة أنها حلّت محل الله.
جدير بالذكر أن باقي جلسات الندوة شهدت مشاركة كل من الباحث محمد الأندلسي وعبد العلي معزوز، والجزائري إسماعيل مهنانة، وإسماعيل مصدق، وعز العرب الحكيم بناني، ولبيب جان فرانسوا ليوتار، وأحمد الصادقي ومحمد طواع ومحمد مزيان. إذ تواصلت فعالياتها يومي الجمعة والسبت بمقر المكتبة بالدار البيضاء.