أولا: أمريكا كقوة عظمى تمر من مرحلة انتقالية صعبة للغاية. إنها تتحول من القوة الأولى في العالم إلى قوة كبيرة لكن أمامها قوى أخرى منافسة. هذا معناه أن العالم يخرج اليوم من «القطب الواحد» إلى «تعدد الأقطاب ومراكز القوة» حول العالم، وهذا معناه أن اللعبة الدولية ستتعقد أكثر، وستتغير الولاءات والتحالفات والمصالح من دولة إلى أخرى ومن ملف إلى آخر على مدار الساعة…
هناك عدة أمثلة توضح ملامح هذا التحول الجيو-استراتيجي الضخم.
هناك أولا عودة روسيا القوية إلى الساحة الدولية، وبروزها كمنافس قوي لأمريكا حول منطقة الخليج وسوريا ومصر، وهناك ثانيا عجز أمريكا عن ضرب سوريا رغم أن الأسد تجاوز ما اعتبره أوباما في السابق خطا أحمرا (استعمال السلاح الكيماوي)، وهناك قرار إخراج إيران من محور الشر، وجلوس واشنطن مع طهران إلى طاولة مفاوضات جد متقدمة حول برنامجها النووي، رغم غضب إسرائيل والسعودية اللتين تريان أن المفاوضات مع الملالي في إيران سيقوي نفوذهم الإقليمي، لكن أمريكا تتصرف وفق مصالحها أولا، ومصالحها تقول اليوم إنها لم تعد قادرة على تحمل «كلفة الإمبراطورية»، وإن عهد الحروب المكلفة قد ولى، وإن اقتصادها قد تضرر كثيرا جراء هذه الحروب، خاصة في العراق وأفغانستان.
ثانيا: لا بد من وضع «النقط على الحروف» مع الإدارة الديمقراطية حول ملف الصحراء، فإقدام ممثلة واشنطن في مجلس الأمن على المطالبة بتوسيع صلاحيات المينورسو في الصحراء لتشمل مراقبة حقوق الإنسان معناه قتل مشروع الحكم الذاتي، والرجوع 20 سنة إلى الوراء، لأن الجزائر وجبهة البوليساريو ستستغلان الصلاحيات الجديدة للمينورسو من أجل تنشيط خلايا انفصال الداخل بعد أن فشل مشروع الحرب العسكرية على الجدار الأمني على مدار 16 سنة، فكلما شعر انفصاليو الداخل بأنهم محميون بمظلة أممية، سيعملون على استفزاز القوات المغربية، التي لن تتحتمل، بالنظر إلى تكوينها وإلى خطورة مشروع الانفصال، ضبط النفس والأعصاب، وبذلك سنسقط في تدويل أكبر لنزاع الصحراء، سينتهي لا محالة بانفصال أكثر من نصف جغرافية المغرب، وهذه فاتورة لا يستطيع أحد تحملها، لا في المغرب ولا في المنطقة… لهذا لا بد من حديث صريح مع الأمريكيين حول منظورهم الاستراتيجي لهذه المنطقة ومستقبل الاستقرار فيها، وليس فقط لمصالحهم الآنية مع الجزائر، والمتمثلة في عقود الغاز والبترول… لقد رأى الجميع كلفة الدول الفاشلة في الصومال ومالي وحتى الجزائر، التي قتل فيها أكثر من 100 ألف مواطن، وزرع في جبالها واحد من أكبر فروع القاعدة في العالم…
ثالثا: على المغرب أن يحسن التموضع في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وهذا التموضع يفرض على الرباط أن تمتلك أوراقا رابحة مادامت المصالح الاقتصادية بين البلدين ليست كبيرة، فرقم التجارة الخارجية بين البلدين لا يتجاوز ملياري دولار سنويا، والسوق المغربية صغيرة على الفيل الأمريكي الضخم، ونحن بلاد لا غاز فيها ولا بترول، لكننا نتوفر على موقع استراتيجي مهم في العلاقة مع إفريقيا وأوربا والعالم العربي… لكن قبل هذا التموقع في الخريطة الإقليمية، لا بد من التموقع على خارطة التحول الديمقراطي بشكل نهائي ولا رجعة فيه.
يوم أمس وجهت منظمة هيومان رايتس ووتش رسالة إلى أوباما تقول فيها: «على الرئيس الأمريكي أن يحث ملك المغرب على تحويل الحقوق والإصلاحات المدونة على الورق إلى واقع يومي معاش»، هذا يعكس جزءا من نظرة الأمريكيين إلى بلدنا، والذي يريد أن يعرف أكثر ما عليه إلا أن يرجع لقراءة تفاصيل أوراق السفارة الأمريكية بالرباط التي نشرها موقع «ويكيليكس»، فعلى أساس هذه الأوراق التي يكتبها السفير الأمريكي بالمغرب تحدد سياسة الإدارة الأمريكية تجاه بلادنا، وليس على أساس تصريحات المجاملات الدبلوماسية التي ينفخ فيها الإعلام الرسمي عندنا بطريقة فجة، للعب مع الكبار قواعد يجب أن نتحكم فيها.