عرف نيتشه جهة الحياة حيث يخصب المعنى في الإنسان. انتبه ببساطة لتمرين وجداني لا يكلف كثيرا، لكن بوسعه أن ينقذ شعبا ويخلص أمة.
في جانب من جوانب الرقة يكمن الاعتراف، التثمين، تلك المساحة العميقة التي نقول فيها للناس شكرا وبحنو. أذكر متقاعدا في حفل تكريمه أجهش بالبكاء، وكان يردد عبارة ذبحته وذبحتنا معه من الوريد إلى الوريد، عبارة: تأخرتم كثيرا يا أصدقاء. التأخر هنا ليس تأخر الأصدقاء فقط، هو بالأحرى تأخر جماعي، إدمان على نسيان الساعة، إمعان في تعطيل كل المنبهات التي تذكرنا بأننا معنيون بالرقص والاحتفال مع إنسان فتح نافذة لتعانق الحياة الوطن أو عبد طريقا ليستحق الإنسان غده.
تأخرنا كثيرا حتى أن جسد صديقنا ما عاد قادرا على حمل هدايانا له. كان وجوده كله يرتجف، شجرة كيانه كلها ترتعش، أوراق أفكاره مضطربة. ضربنا موعدا معه في حافة خريف عاصف لا وقت فيه للمديح. صفرة الجفاء والنكران كانت لغة استحوذت على كل شيء.
العتاب واللوم. هذه هي لغة الذين يتلقون تكريما متأخرا عن موعده، تثمينا تجمد من برد الانتظار ذلك أننا في دولة تسرع في العقاب وتبطئ في التثمين. دولة تهرول نحو العصي لتروض جسدا يكتب لغة مختلفة وتتقاعس كلما تعلق الأمر بحفل يتسيد فيه الورد.
كان جاك سالومي Jacques Saloméمحقا، وهو يضع الحاجة للتثمين ضمن مقومات الصحة النفسية المنتجة. التثمين هو ما يمنح للعمل وجهه المشرق، لكن في سياقاتنا الموجعة، نكتشف شيئا مختلفا، إذ لاشيء يغري في العمل، فالعمل بالشكل الذي يسوق به، هو في أحسن أحواله عبودية منظمة، حركة تروس. الأكثر إغراء يكمن في الخطأ، الخطأ على الأقل يحرك عضلات دولة لا تنتبه إلا على وقع الارتباك، وعلى حافة التهديد. الإنجازات ليست مثيرة، لا أحد سينتبه لمجهود استثنائي لموظف أنجز عملا في وقت قياسي، أو بذل جهدا كبيرا ليحقق رضا كثير من الناس عن خدمته؛ لكن في المقابل سوف تتصدر صورته الجرائد والشاشات حين يقترف خطأ أو يسرقه التقصير.
أذكر ذلك الطفل الذي يقول لأمه بامتنان : «الأكل اليوم رائع يا أمي»، إنه يمسح دموعا داخلية لأعين عميقة لا يراها الأب الذي يبتلع أكله دون انتباه لامرأة قضت نصف يومها في تشكيله وإبداعه. كانت حريصة على لغة ألوانه مهتمة بأدق تفاصيل تقديمه، حتى إذا جاء تسونامي اللامبالاة ابتلعها النسيان.
لكن الأب نفسه سيكون حاضرا وبقوة عندما ينتبه لملح ناقص أو زائد، سينبت من فمه ألف لسان ومن جسده ستخرج ألف يد. علاقتنا بالفرح علاقة ملغومة وكأننا مُفَصلون تفصيلا لأجساد سيزيفه، يجلدها النكران ويكفنها الصمت. علاقتنا ملتبسة لدرجة أن المغاربة يخشون عواقب الفرح حين تزيد جرعته ويطلبون السلامة كلما ضحكوا باستمتاع ( الله يخرج هاذ الضحك على خير). خلف الفرح غابة من الشك غذتها ولعقود وبدربة منقطعة النظير، ثقافة لا تحضر في الساعة التي ما يزال العرق فتيا والجهد غضا والنفس متشوقة للتثمين.
كثيرون جف عرقهم وجفت حياتهم وجفت كل طموحاتهم وأحلامهم، ووقفوا شهودا على ذبول زهرة شبابهم في مقابل صمت ونكران وجحود. أسرى عادوا لوطن بلا عناق، موظفون شاخوا على حافة النسيان، التأخير يحول التكريم لمقصلة، فلنتذكر أن نزرا يسيرا من السعادة يذبح في ثانية من عاش حياته كلها في شقاء النكران.