احذروا دولة القضاة 

17 فبراير 2014 - 18:08

عقب انتهاء أشغال الدورة الأخيرة للمجلس الأعلى، رغم أن عدد الأيادي غير النظيفة ممن عرضت على المجلس كان محدودا، ولا يعكس كل الاختلالات الموجودة في جسم عليل مثل جسم العدالة في بلادنا. 

في الدورة ما قبل الأخيرة نشرت وزارة العدل أسماء القضاة ووكلاء الملك الذين عوقبوا بناء على أدلة قاطعة من قبل المجلس الأعلى للقضاء، فقامت القيامة في بيت القضاة، فلا الودادية الحسنية للقضاة، كأقدم جمعية مهنية في القطاع، قبلت الأمر، ولا نادي القضاة الفتي، الذي يحمل شعارات التخليق والشفافية، قبل بعملية تعرية الجرح أمام الشمس.. كلاهما لاعتبارات خاصة بهما رفضا الفضيحة، واعتبرا مرة أن النشر عقوبة إضافية للقاضي، ومرة أن القانون التنظيمي الجديد الذي يسمح بالنشر لم يصدر بعد، وكلها تبريرات لا تصمد أمام منطق الشفافية والمساواة أمام القانون، ومبدأ ربط المحاسبة بالمسؤولية. التستر على الفساد مكافأة للمتورط فيه وليس عقوبة إضافية في حقه، خاصة عندما نصبح أمام قاض يحكم في مصير البشر وحريتهم وأمنهم واستقرارهم وأموالهم وسمعتهم…

قبل هذه الحادثة رأينا كيف أن السادة القضاة شكلوا لوبيا قويا وسط الهيئة العليا للحوار حول إصلاح العدالة، وكيف كانوا يدافعون عن مصالحهم ورؤيتهم وسلطاتهم ومنظورهم للمهنة في مواجهة وزير في حكومة منتخبة تمثل الإرادة العامة للأمة، وكأن القضاة صاروا دولة وسط الدولة، تشرع لنفسها عوض أن يشرع البرلمان لها، وتعاقب نفسها بنفسها بالطريقة الرحيمة التي تراها هي، وإذا رفع أحد صوته بالقول: اللهم إن هذا منكر، فيواجه بشعار استقلالية القضاء، وكأن الاستقلالية تعني أن يكون القضاة، فقط لأنهم قضاة، فوق القانون وفوق الديمقراطية وفوق الفصل بين السلط.

ليس خافيا على أحد أن الحكومة، ممثلة في وزارة العدل، لم تكن تحمل نفس التصور الذي خرج من أشغال الهيئة العليا للحوار حول إصلاح العدالة، على الأقل في موضوع النيابة العامة التي خرجت من وزارة العدل إلى يد الوكيل العام للملك في محكمة النقض، في حين كان رأي البعض أن هذه قفزة في الهواء، وأن الأجدر أن تخرج النيابة العامة من الوزارة إلى مؤسسة النيابة العامة، وأن يراعى في تشكيل هذه المؤسسة الانتخاب وليس التعيين، لكن قوة الضغط، الذي مارسه القضاة ككتلة واحدة تقريبا في هيئة الحوار، وضرورات التوافق جعلت الميثاق ومسودات القانون التنظيمي تمشي في اتجاه آخر سنكتشف في القادم من الأيام هل كان طريقا صحيحا أم لا.

في ندوة عقدت مؤخراً بمناسبة مناقشة مشروع إصلاح العدالة فوجئ من حضروا بقاضية من نادي قضاة المغرب تتدخل في الندوة بلغة سياسية وتقول: «كيف تسمح وزارة العدل والحكومة لنفسيهما بوضع مسودة القوانين التنظيمية الخاصة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية؟ هذا مس باستقلالية القضاء. القضاة هم الذين يجب أن يضعوا هذه المسودات ومشاريع القوانين وليس الحكومة!».

صدمت من جهل هذه القاضية بالدرس الأول في مقرر القانون الدستوري الذي يدرس لطلبة السنة الأولى حقوق، وجهلها بقواعد فصل السلط في الأنظمة الديمقراطية وغير الديمقراطية، وكيف أن الحكومة والبرلمان هما فقط المسؤولان عن تقديم مشاريع ومقترحات القوانين لأنهما يمثلان إرادة الأمة من خلال نتائج صناديق الاقتراع. لكن صدمتني كانت أكبر عندما بدأت أرى أننا ننتقل من قضاء كان موجها بنسبة 60 إلى 70 في المائة من قبل السلطة ومراكز النفوذ والمال، إلى قضاء سيصير دولة في قلب الدولة، ولن يقدر أحد غدا على أن يوقفه عند حد معين إذا استمر مفتوحا على الضغط الذي يمارسه القضاة بمنطق نقابي ونزعة قطاعية. 

لو أعطينا جميع المهن سلطة تنظيم نفسها بنفسها، ورسم حدود سلطتها من تلقاء نفسها، وحق معاقبة أعضائها بالطريقة التي تراها مناسبة.. لو أعطينا المحامي والطبيب والصحافي والشرطي والمهندس حق وضع التشريع الذي يراه، فإننا سنصنع دولا داخل الدولة نفسها، وستضيع المصلحة العليا بين الأرجل المتصارعة على أكبر قدر من السلطة والنفوذ والحماية والامتيازات، والنتيجة أن المواطن البسيط هو الذي سيدفع الثمن.

القاضي، أيها السادة، سلطة لتطبيق القانون الذي يضعه البرلمان المنتخب من قبل الشعب كل خمس سنوات. والقاضي حكم يحكم بنص، وعليه أن يستحضر رقابة الله ورقابة القانون وهو يقوم بعمله، والسلطة الموضوعة في يديه ليست سلطة قهر واغتناء وأبهة وعجرفة على خلق الله، بل سلطة أخذ الحق من القوي وإعطائه للضعيف، وهذه الأمانة لا يمكن أن توكل فقط لضمير القاضي ولا لقبيلة القضاة، بل إنها أمانة في يد الحكومة والبرلمان تحت مراقبة الشعب والرأي العام والقانون والمؤسسات.

إرادة الأمة هي التي وضعت أمانة تطبيق القانون في يد القضاة، وليس لأن شابا درس الحقوق لمدة أربع سنوات ودخل إلى المعهد القضائي لسنتين وأصبح يلبس بذلة سوداء يتصور أنها تعطيه الحق في أن يصير فوق إرادة الأمة وصندوق الاقتراع…

 

شارك المقال

شارك برأيك
التالي