حب من طرف واحد 

01 مارس 2014 - 14:21

 

يرن الهاتف في مقر وزارة الخارجية المغربية خريف سنة 2010. الاتصال من السفارة المغربية بباريس، والمتحدث قلق جداً وهو يكلم الطرف الآخر في الرباط: «لقد اتصلوا بي هذا الصباح من قصر الإليزي. إنهم غاضبون من العمدة الجديد لإحدى المدن المغربية… لقد دخل في صراع مع شركة فرنسية مكلفة بقطاع تدبير الماء والكهرباء، وأصحاب الشركة من الأصدقاء الكبار لساركوزي كما تعلمون -يوضح المسؤول الكبير في السفارة- إنهم يتهمون العمدة الجديد بتحريض السكان على عدم أداء فواتير الشركة لأن خدماتها سيئة وأثمنتها مرتفعة، وهم يشتكون تجميد مستحقاتهم في وزارة الداخلية لأن العمدة لا يريد أن يوقع على الوثائق، وهذا لا يخدم علاقتنا بالأصدقاء الفرنسيين ولا قضية الصحراء…».

ويضيف المسؤول الكبير نفسه: «تعرفون نفوذ الرئيس المدير العام للشركة هنا وفي دوائر صناعة القرار في باريس». 

الطرف الآخر يرد عليه متفهما للمشكلة: «الرسالة وصلت، وسأبلغها للمعنيين بالأمر. اطمئن، سنجد حلا لهذا المشكل عما قريب».. وكذلك كان، بعد مدة أقيل العمدة من منصبه، وجاء آخر حلت على يديه كل مشاكل الشركة الفرنسية واستمرت معاناة آلاف الأسر مع الشركة. لكم أن تتصوروا بعد ما حدث كيف سيشعر الفرنسيون أصحاب الشركة في المغرب! 

ألا يحق لساسة فرنسا، في اليمين كما اليسار، بعد كل هذا أن ينظروا إلى المملكة الشريفة على أنها خليلة يقضون معها بعض أوقات متعة، ثم يرجعون إلى بيت الزوجية في المساء، دون أن تقتنعوا بإمكانية نشوء حب واحترام وتقدير لهذه العشيقة؟!

فرنسا، التي ينظر إليها الكثيرون في المغرب على أنها أمهم الروحية، لا تبادلهم، للأسف، نفس المشاعر ولا نفس النظرة ولا نفس القيم.

 عوض أن نغضب من هذه الحقيقة، علينا أن نحاول فهم العقل الفرنسي والنظرة الغربية في الشمال إلى مستعمرة قديمة في الجنوب.. نحن إلى الآن لم نطلب اعتذارا من فرنسا التي استعمرت البلاد من 1912 إلى 1956، وقتلت وعذبت وجوعت وأهانت ونفت وسجنت مئات الآلاف من المغاربة، الذين لم تنظر إليهم فرنسا، قبل قرن ونصف، سوى على أنهم أهالي متخلفون، لا يستحقون أكثر من أن يكونوا في خدمة سيدهم الأبيض المتحضر. إلى الآن لم نطلب من فرنسا اعتذارا رسميا عن فترة الاستعمار الأسود، كما فعلت دول كثيرة منها الجزائر وليبيا ودول إفريقية كثيرة، ولا طلبنا من فرنسا تعويضا للضحايا الذين سقطوا برصاص وطائرات ومدافع جيشها في بلادنا، ولا طلبنا منها جبرا للضرر الذي أحدثه الاستعمار في البلد، ثقافة وإدارة وسياسة، فالاستعمار هو أسوأ وأخطر انتهاك لحقوق الإنسان على مر تاريخ الإنسان.

أكثر من هذا، نحن من عوضنا فرنسا عن خروجها المبكر من المغرب. نحن من دفعنا مقابلا باهظا لأن فرنسا تكرمت، بعد أفول إمبراطوريتها وليس قبل ذلك، وسحبت جيوشها من المستعمرة سنة 56، بأن كرمنا لغتها وجعلناها اللغة الرسمية الأولى في البلاد، وكرمنا اقتصادها وجعلناه رقم واحد في المستعمرة القديمة، وأكرمنا حكوماتها، وجعلنا سياستنا في خدمة استراتيجيتهم العسكرية والأمنية في المنطقة…

هل بعد هذا الكرم كله مازالت فرنسا تنظر إلينا كعشيقة لا تجمعنا بها إلا المتعة والمنفعة؟ للأسف، الجواب هو نعم، والسبب نحن وليس فقط فرنسا. إذا لم تحسن الدفاع عن قضيتك ومصالحك فلا تلم الآخرين إذا قصروا في ذلك. 

طيلة العقود الستة الماضية من استقلال المغرب، كانت الدولة، والمخزن في قلبها، مشغولين بتأمين أكبر قسط من السلطة تجاه مطالب المعارضة، لهذا سعت السلطة إلى الاحتفاظ بأفضل العلاقات مع فرنسا، حتى وإن كان المغرب هو الخاسر ومصلحته العليا هي المتضررة. دائماً كانت السلطة تنظر إلى فرنسا على أنها مظلة حماية للنظام القائم، ولهذا لم تسع إلى تصحيح علاقتها معها، ولا إلى إقامة شراكة متوازنة على أسس عادلة مع باريس، وهذا ما جعل هذه الأخيرة مثل ذلك الذي يأكل الغلة ويسب الملة.. يفرح بالإقامة في الأجنحة الملكية لفندق المامونية في مراكش، لكنه عندما يرجع إلى باريس لا يوفر نقدا وسخرية في النظام القائم في المغرب، والذي لا يجد الفرنسيون شبيها له إلا أنظمة القرون الوسطى، وسيرة الملك لويس الرابع عشر الذي كان يعتبر الدولة هي لويس وفرنسا هي الملك…

مع السنوات ظهرت في فرنسا نخبة تسمى «النخبة المامونية»، نسبة إلى فندق المامونية.. نخبة ترى أن المغرب حديقة خلفية لفرنسا.. وحتى لا تظهر بشاعة الصورة للمتابعين للمشهد، يتم تأثيث المسرح باتفاقيات تعاون وشراكة، ومساعدات مالية رمزية، وزيارات متبادلة، وتصريحات دبلوماسية ناعمة تخفي قتامة الصورة، مثل ماكياج فوق ندوب وجراح غائرة… وعوض أن نبني مع فرنسا علاقات استراتيجية مبنية على الاحترام المتبادل والمنافع المشتركة والحوار الثقافي البناء، فضلت النخب الفرانكفونية أن تشتغل خادمة على أبواب فرنسا في المغرب، فهذا أسهل وأسلم لها، فالشراكة متعبة لنخبة مفصولة عن جذورها.. الشراكة فيها ندية وفيها مغامرة وتتطلب جهدا ووقتا وإبداعا، أما الخدمة فلا تتطلب أكثر من الخضوع النفسي والاستعداد لتنفيذ الأوامر. 

فرنسا لا تدعم المغرب في قضية الصحراء لوجه الله، إنها تقبض ثمن ذلك أضعافا مضاعفة، وللذين يخشون على مشاعر فرنسا بالمغرب، نقول لهم: إنكم تورطتم في حب من طرف واحد، وهو أمر يثير الشفقة أكثر من أي شيء آخر.

 

شارك المقال

شارك برأيك
التالي