في مكتبه بمقر معهد العالم العربي المطل على نهر السين، التقينا به الأسبوع الماضي قصد محاورته حول اهتمامات المؤسسة التي يرأسها منذ نحو سنتين، وتمويلاتها وأهدافها، وخاصة مبادرتها بالاحتفاء بالفن التشكيلي المغربي المعاصر. لكن الحوار سلك مسالك أخرى تتصل بالعلاقات المغربية الفرنسية المتوترة، ونتائج الربيع العربي وإمكانيات تجاوز مآزقه، اليوم، وأخيرا تصويت البرلمان الفرنسي على خطوة الاعتراف بفلسطين.
{ يتساءل كثيرون، بخصوص كونك رئيس معهد العالم العربي، عن العلاقات التي تربطك بالعالم العربي. متى بدأت؟ وما طبيعتها اليوم؟
< علاقاتي مع العالم العربي قديمة، حيث لم تبدأ مع تعييني على رأس معهد العالم العربي. فأنا أرتبط بهذا العالم منذ شبابي، خاصة عبر قضايا الاستعمار. فعندما كنت أدرس في المدرسة الثانوية، في سن السابعة عشرة، تأثرت بجميع الأسئلة المرتبطة بالكولونيالية: الحرب الهندية- الصينية، خلع سلطان المغرب، حرب الجزائر..، إلخ. وإن شئت القول، فقد نشأت بهذا الوعي المدني من خلال هذه المعارك ضد الكولونيالية والحروب الاستعمارية.
تعود هذه العلاقة، إذن، إلى زمن بعيد، وهي ترتبط بالعلاقات ما بعد الكولونيالية بين فرنسا وعدد من الدول. بعد ذلك، تعرفت على العديد من الكتاب ورجال المسرح والفنانين في العالم العربي، خاصة في المغرب العربي. إذ تعرفت، مثلا، على الطيب الصديقي، الذي أحبه كثيرا، أو كتاب أمثال عبد اللطيف اللعبي وإدريس الشرايبي والطاهر بنجلون وأبراهام السرفاتي وآخرين.. كما تعرفت في الجزائر على العديد من المثقفين، المسرحيين والسينمائيين على الخصوص. والأمر ذاته ينطبق على تونس وبقية الدول العربية.
كل العلاقات التي ربطتني بالعالم العربي هي علاقات واسعة. فعندما قررت تنظيم مهرجان للمسرح العربي، استضفنا مسرحيين كبار من لبنان وسوريا والمغرب والجزائر وتونس.. وفيما بعد أصبحت أستاذ القانون في الجامعة، حيث أتيحت لي فرصة الالتقاء بمغاربة وجزائريين وتونسيين كانوا طلبتي، من بينهم محمد بنونة الذي درسته قبل عقود، ومارس مهام في الأمم المتحدة، وهو الآن قاض بمحكمة لاهاي الدولية. وقد تعرفت على العديد من الشخصيات الأخرى من خلال وظيفتي الجامعية. وقد رسخت علاقات واسعة مع عدد من البلدان عندما أصبحت وزيرا، حيث حضرت عدة تظاهرات ومبادرات. يمكنني القول إن أول نشاط دعمته حول المغرب المعاصر كان في مدينة غونوبل سنة 1985. حينها كان محمد بنعيسى وزير الثقافة. وقد افتتحنا جميعا أول نشاط يرتبط بالمغرب المعاصر…
{ كيف تستثمر هذه العلاقات داخل معهد العالم العربي؟
< صحيح أنه عندما تربط علاقات صداقة مع العديد من المثقفين والمبدعين والفنانين، رجالا ونساء، من السهل تصور مشاريع وتخيل مبادرات. فعلى سبيل المثال، وفيما يتعلق بـ «معرض المغرب المعاصر»، اعتمدت أساسا على معرفتي بالعديد من الفنانين والمثقفين. صحيح أيضا أن وظيفتي تتيسر بفضل معرفتي هذه بالعالم العربي وبتنوعه.
{ إلى أي حد تستعمل اللغة العربية واللهجات العربية المحلية في أنشطة المعهد؟ وما مدى استعمال اللغات الأوربية الأخرى، غير الفرنسية، خاصة تلك التي يستعملها الكتاب المغاربة والعرب، داخل أروقة المعهد؟
< في البداية، لا بد من القول إن الكثيرين ممن يشتغلون داخل هذا المعهد ينحدرون من العالم العرب، وهم أساسا من البلدان المغاربية ولبنان، ويتحدثون الفرنسية والعربية. فضلا عن ذلك، أنشأنا مركزا لتدريس اللغة العربية. ونحن نريد أن نطور تعليم العربية، هنا في المعهد، وفي بعض الجامعات والجماعات الحضرية. ونحن بصدد تصور نظام لتطوير هذا التعليم، ولوضع لبنات تعليم عن بعد. هنا ندرس اللغة العربية الفصيحة والدوارج العربية المحلية. وهي عملية مهمة، حيث نستقبل أطفالا، وكذا البالغين الذي يحتاجون إلى التحدث بالعربية، خاصة في مجالات العمل. ولأنهم بأعداد كبيرة، فإننا نريد أن نكثف هذا النظام التعليمي.
{ هل مازالت الدول العربية ملتزمة بالتزاماتها المادية تجاه المعهد؟ وما هي المساهمة الفرنسية؟
< وحدها الحكومة الفرنسية تقدم مساهمة تساعد على سير المعهد. عندما أنشئ معهد العالم العربي منذ نحو أربعين سنة، أبدت الدول العربية موافقتها على أن تقدم مساهمات سنوية. للأسف ! لم تضخ بعض الدول مساهماتها المنتظرة، حيث خلقت هذه الوضعية اختلالا جعل المعهد يعيش صعوبات. إذ قرر أحد الرؤساء السابقين، كاميل كابانا، منذ نحو خمس عشرة سنة، ألا يطلب أبدا أية مساهمة من البلدان العربية، لأنها لم تلتزم بتعهداتها المالية بشكل منتظم. ولا يزال هذا القرار قائما إلى يومنا هذا. في المقابل، لجأ المعهد إلى اعتماد منح الهبات والتبرعات، فضلا عما تقدمه الحكومة الفرنسية.
لكن فيما يتعلق بكل نشاط- تعليم العربية، معرض..، الخ- نعود إلى هذا البلد أو ذاك. على سبيل المثال، طلبنا فيما يتعلق بمعرض «الحج إلى مكة»، من مكتبة الملك عبد العزيز آل سعود، أن تقدم مساهمة مالية لدعم هذا النشاط. غير أن الأمر مختلف بالنسبة إلى معرض المغرب المعاصر، حيث حصلنا على دعم معنوي من الملك، وهو أمر مهم من الناحية النفسية، فضلا عن دعم الشركات والبنوك المغربية، وكذا الشركات الفرنسية.
{ ما هو المبلغ الإجمالي للشركات المغربية؟
< أعتقد أن المبلغ هو نحو مليون أورو.
{ ذكرت قبل دعم الملك. ما هي طبيعة هذا الدعم؟
< استقبلني الملك بحرارة وكياسة وثقة. التقيت به مرتين؛ الأولى في فاس، والثانية في مراكش. وعبر لي عن دعمه الكامل لهذه التظاهرة. وهذا أمر مهم. تعرف أنه رجل شغوف بالثقافة والفنون. أعتقد أيضا أنه أحبّ الفكرة. بالنسبة إلي، فأنا أكنّ له كامل التقدير والاحترام. فالأمر بالنسبة إلينا هو أن يدعم الملك هذا الحدث. وانطلاقا من هذا الدعم، طلبت من الآخرين الدعم المالي، الذي يكتسي أهمية بالغة من الناحية النفسية والذهنية. أنا فخور ليس فقط بأن يرعى الملك هذه التظاهرة، إلى جانب الرئيس الفرنسي، بل أيضا بمساهمات الشركات المغربية والفرنسية، لأن ذلك يدل على ارتباطهم بالثقافة والفن، واكتشاف المواهب الجديدة. وما يلفت النظر في المعرض هو كونه عمل جماعي يجمع بين سلطات البلدين والإداريين والفنانين والإعلاميين والجمهور..، إلخ. فالجمهور مطمئن تجاه هذه التظاهرة، حيث يبدو مستمتعا بها الآن، ويعبر عن إعجابه بها. وهذا الأمر يسعدني كثيرا.
{ ألم يكن ممكنا أن ينظم هذا النشاط في المغرب، بدعم من معهد العالم العربي؟
< منذ تعييني رئيسا للمعهد، سعيت إلى ربط علاقات واسعة مع كل البلدان العربية، في المغرب العربي والشرق الأوسط والخليج، ليس من أجل طلب المال أساسا أو تصور المشاريع، بل من أجل نسج روابط تبادل بين هؤلاء وأولئك. إذ ينبغي أن يكون المعهد مؤسسة منفتحة على العالم العربي.
أعتقد أن هناك تعليمات أعطيت، منذ مجيء فرنسوا هولاند، من أجل تسهيل التنقل إلى هنا، خاصة بالنسبة للمواطنين المغاربة. لكني أعتقد أننا لازلنا خجولين، حيث يجب أن ننفتح أكثر على هذا العالم. إذ سنكون محظوظين بأن نستقبل عددا كبيرا من المواطنين المغاربة في فرنسا. تعرف أن هؤلاء الفرنسيين- المغاربة، الذين يشكلون نسبة كبيرة، يمثلون جسرا بين البلدين، وهو أمر مفرح. كم أغبطهم. كم أود أن أنتمي إلى بلدين، وأتحدث لغتين. بالنسبة لي، أعتقد أن المستقبل والعالم الجديد يكمنان هنا، في امتزاج الثقافات حيث يمكن لكل واحد أن يحتفظ بخصوصياته الثقافية، وأن ينغرس في ثقافة ثانية. فأنا أحلم بعالم ممتزج ومختلط، لا يقتل الخصوصيات بالطبع.
أعتقد أن هناك علاقات استثنائية بين المغرب وفرنسا. فمراكزنا الثقافية في المغرب تعتبر الأهم في العالم. كما أعتقد أن هناك تعاطفا متبادلا بين الشعبين.
{ رغم أن العلاقات متوترة بين البلدين اليوم…
< أتمنى أن تكون هذه المسألة مؤقتة. أرى أنه من المؤسف أن تذهب هذه القاضية إلى مقر إقامة السفير لتسلمه استدعاء. هذا الأمر يتناقض مع كل الأعراف الدبلوماسية، بل يتنافى مع مبدأ الاحترام داخل مجتمع ما. لكن يجب القول إن الحكومة الفرنسية لا صلة لها بهذا الأمر. إذ هناك بعض القضاة غير ناضجين. وأنا أتفهم رد فعل الملك والموظفين الساميين المغاربة. فهذا الفعل يمس بسيادة البلد، وإساءة للكرامة. وأظن أن رئيس الجمهورية الفرنسية يفكر بالطريقة نفسها. فقط يجب التنبيه إلى أن فرنسا تفصل بين السلطات، حيث لا يمكن أن نأمر قاضيا أن يفعل هذا الأمر أو ذاك. لكن قيل لي إن خطوات اتخذت حتى لا تتكرر مثل هذه الحوادث مستقبلا. لكن هذا لا يعني أن الأمور حُلَّت نهائيا، لكنني لا أحبذ الحديث عن أشياء لا أعرفها. غير أني أعرف أن السلطات الفرنسية تريد أن تحلّ المشكلة وتطوي الصفحة. إذ من العبث أن يكون هناك سوء الفهم هذا. أظن أن السلطة التنفيذية بذلت مجهودا كبيرا لتسوية هذا الملف. شخصيا، أظن أن الحب المتبادل بين فرنسا والمغرب أقوى من أي شيء آخر.
{ تحدثت في وقت سابق عن تجدد العالم العربي. هل هذا التجدد ممكن في ظل التمزقات الراهنة التي تعصف بهذا الجسد؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف تتصوره؟
< أتفاءل خيرا دائما. أتمنى أن تتطور مجريات الأحداث بشكل إيجابي! لكن ما يمكن قوله هو أن لكل بلد تاريخه وخصائصه. إذ يبدو أن تونس، التي تفجرت فيها أولى الانتفاضات، تتجه نحو ديمقراطية هادئة؛ بينما يشهد المغرب نظاما مغايرا، حيث يضمن الملك استقرار البلد، وييسر -في الآن ذاته- انفتاحا جديدا ودستورا جديدا وبرلمانا منتخبا ومجلسا لحقوق الإنسان وإجراءات أخرى..، خاصة لفائدة النساء. إنه توجه تقدمي، لأن الديمقراطية لا تبنى في يوم واحد، في حين يطغى على الوضعية في الشرق الأوسط الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وتسود أنظمة أخرى في بلدان الخليج.
لكن بغض النظر عن الحكومات والأنظمة السياسية، هناك المجتمعات والمواطنون. وما لا يقبل الجدل هو أن المجتمعات تطورت وتغيرت ودخلت الحداثة إلى هذا الحد أو ذاك، حتى داخل البلدان التي يرأسها مستبدون. في هذا السياق، نحضر للقاء سينعقد يومي 15 و16 يناير المقبل حول «تجديد العالم العربي»، حيث سنستضيف على الخصوص الفاعلين في التحولات المتعددة الحاصلة في بلدانهم: التحول الاقتصادي، السياسي، التربوي، الثقافي..، إلخ. وما نسعى إليه هو أن نكشف أن العالم العربي ليس فقط ما يبثه التلفزيون، وليس هو «داعش»، أو أي شيء آخر. بل هو كنوز من الخيال والإبداع والابتكار، التي نريد أن نثمنها، وهي تضيع في كل مكان من العالم العربي.
{ كيف تنظر إلى موافقة البرلمان الفرنسي على الاعتراف بفلسطين؟
< أنا سعيد جدا أن يعترف البرلمان بفلسطين. إنه فعل أخلاقي وسياسي، لكن –للأسف- لن يكون له في اللحظة الآنية أثر قانوني وعملي، لأنه لتحقيق هذا الأثر لابد من الدخول في سيرورة طويلة من النقاشات والمفاوضات بين إسرائيل وفلسطين. غير أني أعتبر أن اعتراف برلماننا بفلسطين هو أمر جيد، خاصة أنه يأتي في وقت يدير فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ظهره لإنشاء دولة فلسطينية. بينما يبدو الاحتلال متواصلا، ويبدو السلوك غير المتسامح لهذه الحكومة أحيانا مخيبا للأمل.
أعتقد أنه يجب أن تكون الحكومات، اليوم، صارمة في مواقفها ولها حيوية في تحركاتها. إذ أرى أن الأمريكيين والأوربيين، الذي يقدمون تمويلات كبيرة للشرق الأوسط، يجب أن يمارسوا ضغطا قويا حتى تتمكن فلسطين، في النهاية، من أن تتحرر وتصبح دولة ذات سيادة. هذا يكفي. لقد آن الأوان أن ننتقل إلى السرعة القياسية.
{ في نظرك، يمكن أن تقرأ خطوة البرلمان الفرنسي باعتبارها إدانة لإسرائيل…
< بلا شك. لقد قلنا، مرارا وتكرارا، إنه لن نقبل بالاستعمار. فالتراب الفلسطيني مقسم إلى قسمين؛ وهما بدورهما مقطعان إلى أجزاء متعددة، حيث تدمر إسرائيل أساس أي دولة فلسطينية قد تنشأ في المستقبل، كأنها تعارض أي فكرة لإنشاء الدولة الفلسطينية. نعم، نحن ننتقد نقدا لاذعا سياسة نتنياهو، التي قد تنقلب في الواقع ضد إسرائيل. فهم يقولون إنهم يريدون أن يضمنوا أمن إسرائيل، لكن العكس هو ما يحدث، لأنهم يعرضونها للخطر. لابد من تغيير الأمر الواقع، لأنه لا يمكن أن يستمر هكذا.