56 عاما من عمر صندوق الإيداع والتدبير..

11 فبراير 2015 - 00:15

بدأت القصة في 10 فبراير من العام 1959، حين تولّى سليل البورجوازية الفاسية، الراحل مامون الطاهري، تأسيس صندوق الإيداع والتدبير، اقتداء بالتجربة الفرنسية في مجال استثمار وحماية المدخرات الاجتماعية للمواطنين. وبعيدا عن الأهداف المسطّرة أو المعلنة، أثار أكثر من نصف قرن من وجود هذه المؤسسة المالية الكبيرة العديد من الإشكالات.

أسبوعا واحدا بعد التحاق المدير العام السابق لمديرية الضرائب، عبد اللطيف زغنون، إلى مكتب إدارته بساحة «بتري» الشهيرة بالعاصمة الرباط، تُطفئ إمبراطورية الـ»سي دي جي» شمعتها السادسة والخمسون، وهي تحاول إعادة ترتيب بيتها الداخلي بعد زلزال فضيحة «باديس» العقارية التي أطاحت بأنس العلمي. أذرع أخطبوطية مدّها هذا العملاق المالي والاقتصادي منذ 10 فبراير 1959، لتهمّ أهم القطاعات الحيوية لاقتصاد المملكة، مدعوما بصندوق كبير يضمّ مدّخرات المغاربة وتأميناتهم. هو اليوم أحد أكبر قنوات الاستثمار «العمومي» في المملكة، والداعم الأول للأوراش الكبرى التي أطلقها الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش، والإمبراطورية التي لا تغفلها أعين السياسيين. وفيما يقرّ الجميع بصواب بعض الاستثمارات الناجحة التي قام بها الصندوق في قطاعات واعدة، من قبيل دعمه لمشروع إقامة مصنع «رونو» قرب طنجة، ودعمه لكثير من الأوراش الكبرى المهيكلة لمملكة محمد السادس، فإن انخراط الذراع المالي للدولة في مغامرات إعلامية وسياحية جرّت عليه الكثير من الانتقادات.

الأخطبوط، الذي بات زغنون مطالبا بقيادته، استأثر في السنوات القليلة الماضية بكثير من الأضواء، خاصة حين تحوّل مديره العام السابق، مصطفى بكوري، إلى «زعيم» لحزب سياسي مثير لكثير من الجدل، وباتت أرقامه ونتائجه المالية تخضع لرقابة وتساؤل البرلمانيين، وأخذ كثير من المستثمرين الخواص في الجهر بتضايقهم من منافسته لهم في سوق المال والأعمال، وهو الصندوق المستفيد من رعاية وامتيازات الدولة، والمستأمن على معاشات المسنّين والمتقاضين والأيتام والأرامل والمطلّقات.

الكراوي: الصندوق تأسس لغياب بورجوازية مستثمرة

بدأت القصة ذات 10 فبراير من العام 1959، حين تولّى سليل البورجوازية الفاسية، الراحل مامون الطاهري، تأسيس صندوق الإيداع والتدبير، اقتداء بالتجربة الفرنسية في مجال استثمار وحماية المدخرات الاجتماعية للمواطنين. وبقي الصندوق منذ ذلك التاريخ، متمتّعا بوضع قانوني خاص، يمتّعه بكثير من الامتيازات، ليس أقلّها الاستئثار بتدبير احتياطيات الصناديق الاجتماعية مقابل معدل فائدة جد متواضع مقارنة بأسعار السوق. «بغض النظر عن مختلف آراء الباحثين في وضعية الفاعلين الاقتصاديين خلال السنوات الأولى من استقلال المغرب، فلا مناص من الاعتراف بأنهم استطاعوا كلهم التأكيد على أن الدولة كانت مضطرة، في ظل تشكيل وتطوير مراكز اهتمام المقاولين، وبسبب إكراهات إعادة تأسيس المقومات الوطنية، إلى التكفل بالاستثمارات في القطاعات الاقتصادية المغربية الأساسية، وإلى تحفيز الخواص على الاهتمام بالقطاعات الثانوية»، يقول الخبير الاقتصادي إدريس الكراوي، في كتابه «النخبة الاقتصادية المغربية».

هذا الأخير وضع تأسيس صندوق الإيداع والتدبير في سياق محاولات المغرب حديث العهد بالاستقلال، استعادة السيطرة على شرايين اقتصاده المرتهنة للنفوذ الفرنسي. «كانت سلطات الحماية تسيطر على القطاعات الاقتصادية الحيوية بالبلاد، فالمغرب المستقل لم يغير خياراته الاستراتيجية بعد، كما أن الدولة اعتمدت في دعم نفسها على حيازة أغلب الشركات الفرنسية العاملة في المغرب، ابتداء من القطاع المالي، وذلك بإنشاء بنك المغرب في يونيو 1959 بعد مساومات طويلة مع فرنسا». 

وفيما اعتبر تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم منعطفا بارزا في خيارات المغرب الاقتصادية، اعتبر الكراوي أن هذا التحوّل تجلى من خلال الانخراط في سياسة ترمي إلى خلق مجموعة من المؤسسات العمومية لتوسيع مجال السيادة الوطنية على قطاعات الاقتصاد. «وبناء على ذلك، تم إحداث البنك الوطني للإنماء الاقتصادي (BNDE)، لتمكين رجال الأعمال المغاربة من الاستثمار في القطاعات المُدرّة للثروات، كما كان إحداث صندوق الإيداع والتدبير (CDG) دليلا على الإرادة السياسية للدولة في توفير الإمكانات المالية والمؤسساتية اللازمة لتقليص العجز الهائل الذي كان يعرفه المغرب بعد الاستقلال». قرار الدولة المغربية الانخراط بقوة في الاستثمار في القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، فسّره الكراوي بغياب طبقة من المقاولين قادرة على تدبير المشروع الاقتصادي الوطني.

منافس «مقلق» وخارج المراقبة

بعيدا عن الأهداف المسطّرة أو المعلنة، أثار أكثر من نصف قرن من وجود هذه المؤسسة المالية الكبيرة، إشكالات متراكمة تجعله محطّ تساؤلات مستمرة بخصوص وضعيته القانونية وسلامة ممارساته الاقتصادية. فالإطار القانوني، الذي ينظم نشاط الصندوق، لم يعرف أي تجديد منذ بداية الاستقلال، وفي هذا الصدد، يقول الخبراء الاقتصاديون إن أنشطة الصندوق أصبحت تتجاوز الإطار القانوني المنظم له. قوانين لا تميّز، حسب كثير من الخبراء، بين الأنشطة المباشرة للصندوق، وبين تلك التي تنجزها فروعه المتعددة، والتي يفترض فيها الخضوع لقوانين السوق وقواعد المنافسة. كما أن المعاملات التجارية للصندوق باعتباره مؤسسة عمومية، مع شركات مقربة من الدولة مثل مجموعة «أونا» سابقا، وشركة الضحى، تثير تساؤلات وشبهات كثيرة، حيث يتساءل كثير من الاقتصاديين عن سبب تفضيل الصندوق التعامل مع هذه الشركات تحديدا في بعض المعاملات دون غيرها، وقد أثير جدل في الإعلام حول استفادة الصندوق من أراضي الدولة مثل أراضي صوديا وسوجيطا، بغرض إنشاء أقطاب مدن. فقد اقتنى الصندوق هذه الأراضي بأثمنة زهيدة مستفيدا من امتياز كونه مؤسسة عمومية، لكنه أعاد بيع بعض الأراضي، التي اقتناها من الدولة، لشركات خاصة بنت فيها عقارات وقامت بتسويقها بثمن السوق.

إشكال آخر يثيره موضوع المراقبة، حيث إن الصندوق باعتباره مؤسسة عمومية تدبر أموالا عمومية، يجب نظريا أن يخضع لمراقبة الحكومة والبرلمان، لكن الواقع يقول عكس ذلك، حيث ينص القانون على آليات للمراقبة تستبعد دور البرلمان، بحيث يبقى دوره شكليا ينحصر في استدعاء مدير الصندوق للإدلاء بتوضيحات. مصدر من داخل المؤسسة قال لـ»أخبار اليوم»، إن «صندوق الإيداع والتدبير لا علاقة له بالحكومة، «وعلى رأسه توجد لجنة للمراقبة يرأسها والي بنك المغرب ويشارك فيها ممثل عن رئاسة الحكومة». وفيما يقّدم الصندوق المماثل لـ»سي دي جي» في فرنسا الحساب للبرلمان الفرنسي، يقدم الصندوق المغربي حساباته للملك مباشرة ولا يمارس البرلمان أي رقابة عليه. وهو ما برّره مصدرنا من داخل الصندوق بكون «سنة إحداث الصندوق، أي 1959 لم يكن فيها برلمان، لذلك لم يتم التنصيص في الظهير المحدث له على تقديم الحساب للبرلمان كما هو الشأن في فرنسا».

ومن بين الإشكالات المالية التي يثيرها الوضع الاستثنائي لهذا الصندوق، ما حدث أثناء التصديق على حسابات الصندوق لسنة 2007، حيث انصب النقاش حول أرباح بقيمة مليار درهم حققها الصندوق عبر محفظة أسهم شركة التأمين «أطلنطا»، حيث اعتبر الخبراء المحاسبون أن ذلك المبلغ يجب أن يُدمج ضمن احتياطات الصندوق، في الوقت الذي أصر فيه الصندوق على ضرورة إلحاقه بالأرباح المدعمة التي تضم جميع الأرباح التي حققتها الفروع. وقد تخوف الخبراء المحاسبون من أن يكون دمج المليار درهم ضمن الأرباح وسيلة لتضخيم أرباح صندوق الإيداع والتدبير، وهو الأمر الذي ينفيه مسؤولو الصندوق بشدة. الجدل امتدّ ليشمل بعض التدخلات الاقتصادية للصندوق التي تثير تساؤلات، خاصة في البورصة، مثل اقتناء أسهم نادي البحر الأبيض المتوسط في وقت كانت فيه أسهم النادي متدنية، ومع ذلك اقتناها الصندوق بأثمنة عالية، إضافة إلى تدخلات الصندوق لصالح أسهم مجموعات اقتصادية معينة، كل هذا يثير تساؤلات لدى الاقتصاديين. وازدادت نبرة النقد الموجّهة للصندوق بنهجه سياسة بناء فنادق الخمس نجوم، ومارينات اليخوت، ومشاريع «الأغنياء» بأموال الكادحين الذين يضعون رزقهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

جدل في البرلمان

توجّهات جعلت القطاعات الأكثر مردودية في استثمارات الصندوق في الفترة الأخيرة، هي العقار والمشاريع السياحية الكبرى، خاصة منها المحطات الكبرى في السعيدية وتاغازوت. «نحن نستثمر في السياحة باعتبارها قطاعا استراتيجيا بالنسبة إلى المغرب وللحكومة، كما أنها كانت تاريخيا مجال حضور قوي لصندوق الإيداع والتدبير. أما ملاحظة البعض دخول الصندوق في مشاريع لم تحقق بعد نتائج جيدة مثل مشروع السعيدية وتاغازوت، فيعود إلى كوننا مؤسسة تستثمر في المدى البعيد والاستراتيجي، وبالتالي لا ننتظر دائما تحقيق نتائج كبيرة في المدى المتوسط والقصير»، يقول أنس العلمي، الرئيس المدير العام للصندوق السابق للصندوق، في إحدى الندوات الصحافية. فيما برّر الصندوق اقتناءه سبع وحدات فندقية تابعة للقرض العقاري والسياحي، بكون هذا الأخير مؤسسة بنكية لا يمكنها تدبير مؤسسات فندقية، «بينما صندوق الإيداع والتدبير حاضر بقوة في الأنشطة السياحية. لهذا اقتنينا سبع وحدات فندقية من البنك، حتى يمكنه التركيز على نشاطه البنكي، وهي ليست كلها وحدات فندقية تعاني من صعوبات، بل منها فنادق ناجحة جدا»، يقول أحد مسؤولي المؤسسة. 

رئيس الفريق البرلماني لحزب العدالة والتنمية بمجلس النواب، عبد الله بوانو، كان وراء تفجير موضوع الخسائر المالية الكبيرة التي سجّلها الصندوق في بعض «مضارباته» داخل البورصة. وقال بوانو خلال أحد اجتماعات لجنة المالية، الذي استضاف المدير السابق أنس العلمي، إن خسائر تكبدها الصندوق لما تدخل لشراء أسهم شركات خاصة كانت على حافة الإفلاس، ومن بينها خسارة 7،3 مليار درهم في مشروع «كلوب ميد». وذهب بوانو يومها إلى اتّهام الصندوق بالانخراط في أجندات سياسية، من خلال دعم مشاريع بجماعات بعينها، وتلقي «التعليمات» للتدخّل وإنقاذ شركات مفلسة، متّهما أمين عام حزب الأصالة والمعاصرة، بالمسؤولية عن تبديد قرابة أربعة ملايير من الدراهم من مالية الصندوق، خلال فترة إشرافه عليه. اتهامات ردّ عليها برلماني الـ»بام» المهدي بنسعيد، بالقول إن «الادعاءات والافتراءات التي قدمها بوانو في حق مصطفى الباكوري أثناء ترؤسه لصندوق الإيداع والتدبير واتهامه بتكبيد الصندوق خسارة 3.7 مليار درهم، تنم عن جهل تام بقانون السوق والمعاملات المالية والنقدية داخل البورصة». وأوضح بنسعيد أن العملية التي أشار إليها بوانو همّت شراء صندوق الإيداع والتدبير لسندات من البورصة بمنطق احتمال الربح والخسارة، وأن انهيار قيمة الأسهم تزامن مع الأزمة الاقتصادية، التي عرفها العالم سنة 2008، كانت هي السبب.

هذه النقاشات الصاخبة التي تفجّرت تحت قبة البرلمان مؤخرا، حول تراجع محتمل في عائدات الصندوق ونتائجه منذ العام 2011 على الأقل، عادت لتتساءل لماذا سجّلت الأرباح المتأتية من استثمارات الصندوق، انكماشا واضحا. وهو ما يردّ عليه مسؤولو الذراع المالي للدولة، بعدم إمكانية المقارنة مع نتائج سنة 2010 التي شهدت صفقة تفويت حصة الصندوق من شركة «ميديتل» وما حققته من أرباح؛ وبالظروف المالية الصعبة التي شهدها العالم في السنة الماضية (2011). فيما أصرّ المدير العام المعزول، أنس العلمي، في كل خرجاته الإعلامية على نفي أن يكون الصندوق سجين مقاربة تكنوقراطية وبعيدة عن أفق تنموي معرفي، «بل نحن مجموعة منوعة وحاضرة في مجالات مختلفة، وعلى جميع المستويات الاقتصادية الوطنية. ومن أمثلة هذا الانفتاح والتنوع، استثمارنا في الجامعة الدولية للرباط، والتي أبانت عن نتائج جيدة بعد سنتين من إحداثها، وأبرمت خلال هذه المدة عدة شراكات للبحث والتعاون مع مؤسسات علمية دولية في أوروبا وأمريكا وآسيا، أي أن المغرب أصبح يصدر معرفته. إلا أن استثمارنا في المعرفة نحرص فيه على الجوانب التي تخلق قيمة مضافة وتخلق ثروات ومناصب شغل». 

خدمات اجتماعية، ولكن..

قال محمد البقالي، خبير اقتصادي وبرلماني سابق، إن الفرق بين صندوق الإيداع والتدبير والمؤسسات البنكية، يتمثل في كون «س يدي جي» ليس مؤسسة بنكية كلاسيكية للإقراض، ولا تستقبل ودائع الأشخاص، وليست مفتوحة على زبناء، و»إنما هي مؤسسة مالية نشاطها أوسع. خاصة أن التقليد المغربي يقضي أن الأبناك المغربية في السابق لم تكن أبناك أعمال، وإنما أبناك قروض وائتمان». الخبير أوضح أن قانون الأبناك، الذي صدر في 2006، وهو القانون 03-34، أدمج صندوق الإيداع والتدبير ضمن قانون الأبناك، «حيث فرض على صندوق الإيداع والتدبير وضع المعطيات والمعلومات رهن إشارة بنك المغرب، وتحدث عن فرض المحاسبة والمراقبة على أنشطته، وأخضعه في باب الإجراءات الزجرية. إذن الصندوق يخضع للقانون البنكي في هذه الجوانب وليس في جوانب أخرى».

في انتظار تحقّق «نبوءة» البعض التي تعتبر تعيين عبد اللطيف زغنون القادم من دواليب الإدارة خلفا لأنس العلمي، مؤشرا على رغبة الدولة في إعادة ذراعها المالي إلى سكة التركيز على الخدمات الاجتماعية والتنمية عوض تحقيق الأرباح المالية؛ ظلّ أنس العلمي الذي عصف به مشروع عقاري بمدينة الحسيمة، مصرّا إلى آخر أيامه على أن هدفه كان «تطوير العرض السكني إسهاما من المجموعة في تجاوز وتغطية العجز الحاصل في هذا الميدان». وأعلن العلمي أن صندوقه ساهم في إنجاز 11600 وحدة سكنية ما بين سنتي 2007 و2011، «يشكل فيها السكن الاجتماعي ما يناهز 50 في المائة من هذه الوحدات»، وأن الصندوق ساهم في تهيئة عدة مناطق صناعية مندمجة وفي جهات متعددة في المغرب، وقام بإعداد البنى التحتية اللازمة لأنشطة التعاقد الخارجي (offshoring)، مع تطوير مناطق موجهة للمنتجات الفلاحية والبحرية، مواكبة لمخططي المغرب الأخضر وهاليوتيس..

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي