سلاطين أكثر من السلطان نفسه

25 فبراير 2015 - 19:08

يقول عبد الله العروي، في الجزء الرابع من مذكراته «خواطر الصباح»: «كان علال الفاسي لا يُقَبِل يد الملك، وقبَلَها محمد بوستة، كذلك يلاحظ أن اليوسفي لا يقبل يد الملك الجديد، فيما الوزراء الشبان يقبلون يد الملك مرتين. تنتعش المخزنية بتجدد الأجيال حيث تكثر المنافسة».

هذه الملاحظة الصغيرة من مؤرخ كبير تحتاج إلى أن نتوقف عندها بسرعة ودون إزعاج الكثيرين ممن يقفون على أبواب المعبد «حراسا لتمخزنيت»، خوفا أحيانا، وطمعا في كثير من الأحيان…

ملاحظة العروي يمكن سحبها على بنكيران ووزرائه، وعلى الذين مروا من التجربة نفسها، وربما على الذين سيتبعونهم.. أتطلع إلى الوزراء الشباب في هذه الحكومة وفي غيرها، وأرى أن جلهم يستشهد بالخطب الملكية في كل كلمة يقولها، حتى وإن كانت المناسبة لا تستدعي ذلك، وأرى أنهم يجلبون على أنفسهم السخرية، وربما الشفقة… حتى إن وزيرنا في الاتصال، مصطفى الخلفي، ابتكر بدعة رفع رسالة ولاء وإخلاص في نهاية كل حفل سنوي لتسلم جوائز الصحافة. سألت العارفين بالطقوس والأسرار: هل طلب منه أحد أن يقوم بذلك؟ قالوا لي: «لا أحد طلب منه ذلك. هي مبادرة من الوزير». قلت لهم: «إذن هو يجتهد في جعل الملك الدستوري سلطانا وإماما لا تقام صلاة ولا صوم ولا عبادة ولا تجارة ولا علم ولا نشاط بدون استحضاره. هذا يبعدنا عن الملك الدستوري العصري الذي يحتكم إلى الدستور وإلى أصول الحكم العصري».

هل الاتجاه العام للتاريخ والحاضر والمستقبل مع المنطق الأول أم مع المنطق الثاني؟. إذا كان الجالس على العرش منع الشعراء من مدحه، وقال لهم امتدحوا النبي محمد (ص)، وإذا كان محمد السادس قد ألغى باختياره صفة القداسة التي كانت له في الدستور القديم، فلماذا يتحول الآخرون إلى سلاطين أكثر من السلطان نفسه؟

يظل السؤال قائما حول الطريقة التي تقدم بها النخب السياسية والتقنوقراطية أوراق اعتمادها إلى القصر. جل هؤلاء يرون أن ارتداء شاشية المخزن، وتقبيل اليد، وإظهار فروض الطاعة العمياء، هي الأساس لدخول السلطة، والحصول على المنصب، والاستمرار في العيش قرب جنة الحكم…

كيف يصبح الشيوخ أكثر حداثة وتقدمية وانفتاحا وعصرنة من شباب العصر وشباب الأنترنت وشباب الحداثة؟ المسألة ليست ثقافية بالأساس.. ابحث عن السر في المصلحة وفي حب السلطة وفي السعي دون ضوابط إلى هذه السلطة…

ليس عيبا أن تكون للشباب طموحات سياسية ومادية ورمزية. ليس عيبا أن يسعى الشباب والكهول والشيوخ إلى السلطة لأنها أداة للتغيير والفعل والتأثير واكتساب الوجاهة والمال، لكن بشرط أن يضع هؤلاء أمامهم ضوابط لهذه العملية، وهذه الضوابط هي خدمة المصلحة العامة، وسلوك درب الاستحقاق والكفاءة، والاحتكام إلى صندوق الاقتراع، وربط المسؤولية بالمحاسبة، ثم تأتي المكاسب الشخصية الأخرى تباعا: المال، الجاه، الشهرة، الاعتبار… هذه هي أصول الممارسة السياسية. كاذب ومنافق من يقول إن الإنسان يمارس السياسة بمنطق صوفي ولوجه الله والمصلحة العامة فقط، دون نوازع خاصة مادية أو رمزية. هذا تصور مثالي غير موجود على أرض الواقع. الإنسان ينتمي إلى حزب أو مؤسسة أو وزارة أو مجلس بلدي أو برلمان من أجل أن يخدم المصلحة العامة والمصلحة الخاصة معا. العيب يكون في ترتيب المصلحتين لا في الاعتراف بهما. الوصول إلى المصلحة الخاصة يجب أن يتم وجوبا عبر طريق المصلحة العامة، وإذا تعارض الأمران، فيجب تقديم العام على الخاص، ثم إن السعي إلى السلطة يجب أن يستحضر العصر وقيمه وضروراته، يجب أن يسعى السياسيون إلى السلطة مشيا على الأقدام لا زحفا على البطون…

في مذكرات العروي الأخيرة إشارات كثيرة وإضاءات متعددة حول سبل تحديث نظامنا السياسي، وإزالة عباءة التقليد الجامد الذي عطل البلاد لقرون طويلة، وهو إذ يحفر في علاقة الملك بالتقاليد، وعلاقة المغاربة بالمواطنة، والأحزاب بالدستور، والداخل بالخارج، فلكي يضع الجميع أمام المرآة التي لا يريد الكثيرون أن يروا وجوههم فيها.

مرة أخرى أذكر بمقولة مؤرخنا في الجزء الأول من «خواطر الصباح» حيث يقول: «عدو رجال السياسة هو المؤرخ -حتى ولو كان مأجورا- لماذا هو عدو؟ لأنه يذكر ويتذكر»…

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

dawi casablanca منذ 9 سنوات

انا محمد ابن الضاوي متقي لا اتفق معك ان الجميع يقوم بالعمل الوطني او السياسي لاجل هذفخاص و ان كان مضمون عمله الصالح العام ماتئة بالمائة فهناك موطنين يشتغلون فقط لاجل هذه الامة المغربية و لا يهمها من ركب و من نزل بقدر ما تبحث على من صنع و من قام و لم يجلس

محمد منذ 9 سنوات

يبقى الإشكال مطروحا حول إذا ما امتنع هؤلاء عن الإطراء للسلطة الحاكمة، ماذا سيحصل؟ فجميعنا يعلم خلسة أن العلاقة بين الإسلاميين والقصر ليست مستقرة، والسبب دائما هو وجود وسطاء بين الاثنين، كما لن تستقر قريبا علاقة العدل والإحسان معه لنفس الأسباب، فالأولون "العدالة والتنمية" قرروا منذ مدة سلك طريق الولاء والثناء..، فوثق بهم القصر ولو مؤقتا بعد أزمة، والآخرون ممن أظهروا معارضتهم للأمر، لم تعترف بهم السلطة أصلا ولم تسمح لهم حتى بتشكيل حزب سياسي، لذلك فلنعترف اليوم ولنقل أن المشكل مشكل القوي الذي يفرض سلطته من وراء الستار، وليس مشكل الضعيف الذي تريد السلطة منه أن يبقى هائما ومتعلقا بها عبر أولئك الوسطاء المعروفين.

علال بورزة منذ 9 سنوات

دائما نفس القراءة السطحية لكتابات العروي!! يشجع المخزن ذلك السلوك، أي الولاء، جهرا أو سرا مقابل امتيازات قد لا تكون بالضرورة مادية، فالتغاضي عن المفسدين وتسهيل وصولهم إلى السلطة امتياز!! السؤال هو: ماذا لو توقف الجميع؛ فجأة؛ عن تقبيل اليد والركوع؟ هل سيرضي ذلك المعني بالأمر؟

محمد منذ 9 سنوات

مقال جيد و الاستشهاد بالعبقري امر رائع.

ألأنصازي منذ 9 سنوات

اذا غابت الشروط الموضوعية لتسلق السلم الأجتماعي فاننا سنسقط في مثل ما ذهبت اليه قي تحليلك سي توفيق.وفي نظري فان المخزن هو المسؤول الأول عن هذه الظاهرةوبتمريره لمثل هذه الرسائل فهو يرسخ الطرق التقليدية التي تمكن من الوصول الى قمة السلطة و الجاه.العدد القليل الذي لايساير هذه الطقوس والذي يتوفرغالبا علي الكفاءة والتجربة اللازمتين لمثل هذه المسؤوليات يكون هو الاستثناء.ومع الأسف فان الفئات الكثيرة التي لايهمها سوي النفع الشخصي المعنوي والمادي هي التي يتم ترشيحها للمناصب العليا من طرف الأحزاب.واذا كنا نعرف ماهي المعايير التي تتم بها تزكية المناضلين بالأحزاب الوطنيةفاننا سنجد أنفسنا في نفس المنهجية التي يتبعها المخزن.وعليه فمثل هذه المجتمعات لايمكن أن تعطي الا مثل هذه النخب الانتهازية.

التالي