في مذكرات العروي الأخيرة رسائل عديدة وجهها إلى القصر وإلى الملك وإلى ازدواجية الشرعية في النظام، كيف قرأت أنت هذه الرسائل؟
لا تُقرأ ولا تفهم، في نظرنا، مذكرات العروي في جزئها الرابع المعنون «المغرب المستحب» أو مغرب الأماني، إلا باعتبارها إضاءات جديدة لمشروع في الإصلاح الثقافي والسياسي. إن مذكرات العروي الأخيرة التي تغطي ما يقرب من عقد من الزمان، 1999-2007، تشير، من جهة، إلى أنها موقف من بعض وقائع العهد الجديد، أي أنها تروم وضع اليد على ممارسات وخيارات تتعلق ببداية حكم محمد السادس، إلا أن المهم فيها هو أن صاحبها عاصر بوعي يقظ أيضا بدايات حكم الملك الراحل، وكتب شهادة عنه لا نتردد في إدراج جوانب منها في خواطر العروي المكتوبة بالفرنسية، مثلما نضيف محتويات كتابه «ديوان السياسة» في الأفق نفسه… ففي نصوص العروي الأخيرة، بما في ذلك مقدمات ترجماته لنص روسو: «دين الفطرة ونص تأملات في تاريخ الرومان لمنتسكيو»، حيث تزداد عناصر مشروعه وضوحا وقوة، وذلك بحكم أن هذه الكتابات تواكب التحولات والانكفاءات الحاصلة، وتحاول بناء مواقف جديدة بهدف مواصلة الدفاع عن مشروعه، والإقناع بأهمية الخيارات الفكرية والسياسية التي تبدو له أنها وحدها الكفيلة برفع حالة التأخر القائم والتراجعات الحاصلة اليوم. إن قوة نصوص المذكرات تكمن في جملها التي ترسم مشاهد وصورا، وهذه المشاهد والصور تأتي في النص أحيانا بلغة الكاميرا، لتدفع القارئ إلى معاينة الازدواجية المتواصلة في بنية النظام السياسي المغربي. نتبين ذلك بوضوح في الصفحات الأولى من المذكرات.
تقدم خواطر العروي لقارئها نصا يضعه من جديد في قلب مواقف وخيارات العروي التأريخانية، حيث يواصل دفاعه المستميت عن العقل والتعاقد والمستقبل، وما يمنح هذا النص قوته هو استماتته المشفوعة بأدلة جديدة حول جدواه، وبعض الذين انتبهوا إلى بعض الجمل التي تشير إلى بعض متغيرات الراهن، وتحدثوا عن تردده أو تراجعه لم ينتبهوا بعناية إلى أن الرجل يواصل نقد التقليد والازدواجية، وذلك في سياق مواصلته الاستماع إلى إيقاعات التحول في علاقتها بالمعارك المتواصلة في بلادنا، وفي كثير من المجتمعات العربية، من أجل مواصلة تمثل قيم التحديث، ومواصلة التعلم من مكاسب ومنجزات التاريخ المعاصر.
العروي منع نفسه من انتقاد الدولة، وركز على انتقاد المجتمع والثقافة التقليدانية، وكل أمله في الأمير المستنير الذي ينزل الإصلاحات من فوق. هل تعب المؤرخ من هذا الخيار فتوجه إلى نقد السلطة يأسا منها؟
أنا لا أميز في كتابات العروي ومشروعه الإصلاحي بين كتاباته في نقد الدولة ونقده للمجتمع وللمثقفين، وعندما نقرأ نصوصه الفكرية ومذكراته بعناية وكذا أعماله الأدبية، نقف على جملة من المواقف تلونها أصناف الكتابة بما تقتضيه الصنعة في كل صنف من أصناف الكتابة. أما المواقف فهي واحدة، فعندما تساءل العروي قبل ما يزيد على أربعين سنة في كتابه «أزمة المثقفين العرب» عن نوعية الأزمة، وهل هي أزمة مجتمع أم أزمة المثقفين، ركب موقفا نحا فيه نحو تشخيص التداخل القائم بين المثقف وبين المجتمع. وفي موضوع سؤالك أشير إلى أن موقف العروي من الدولة وحماسه الدائم لمسألة الإصلاح وضرورته يجعله أحيانا يتطلع إلى إمكانية تحقيق خياره عن طريق الاستعانة بمشروع يمكن أن يحصل عندما نتوفر على حاكم يبادر بسن خطط تضعنا في طريق الإصلاح والاستنارة، وله في التاريخ شواهد تنطق بذلك، ألا أنه في نظرنا يعي الواقع جيدا، وقد عاصر ثلاثة ملوك، وانخرط مبكرا في العناية بالشأن العام، وأعلن منذ زمن دعوته وانتصاره لضرورة القطع مع العتيق والتقليدي في ثقافتنا ومجتمعنا وأنظمة حكمنا.
أقول إن مذكرات العروي في جزئها الرابع تواصل نقدها لكل ما هو محنط في مجتمعنا وثقافتنا، وهو يستند في نصوصه الأخيرة إلى المتغيرات التي وقعت ليواصل، انطلاقا منها، نقده لمظاهر ازدواجية الحكم ومختلف التراجعات التي حصلت، سلاحه في ذلك التواصل مع العالم، والتعلم من مكاسبه، والانخراط في بناء مجتمع جديد وثقافة سياسية جديدة. ولا ينبغي أن نفهم من هذا أننا أمام مشروع مغلق، بل ينبغي أن يفهم منه أننا أمام ثقافة جامدة، الأمر الذي يستدعي مواصلة الجهد النقدي الرامي إلى تفتيتها ومحاصرة مخلفاتها بهدف النهوض بمجتمعاتنا.
يقول إدوارد سعيد في تعريف وظيفة المثقف: المثقف هو الذي يقول الحقيقة للسلطة. هل تتفق مع هذا التعريف لماهية المثقفين؟ وهل ترى أنهم يقومون بالوظيفة نفسها اليوم في المغرب؟
يبدو لي أن جملة إدوارد سعيد ناقصة بحكم أنها بدون سياق، والجمل بدون سياقاتها تمنحنا أنصاف المعاني التي نفترض أنها تحملها. فعندما نقول إن مهمة المثقف هي قول الحقيقة يحق لنا أن نتساءل: هل المثقف يعرف الحقيقة؟ يبدو أن من بين مهام المثقفين اليوم الانخراط، مثلا، في الدروب، واتخاذ المواقف التي يتخذها العروي، وذلك بحكم أن المثقف يحمل وعيا يؤهله لبناء مواقف تاريخية محددة في موضوعات الصراع التي تجري في المجتمع، وأن وعيه وخبرته يؤهلانه لبناء رأي وموقف يفترض أن يكون له تأثير داخل المجتمع. صحيح أن آليات الصراع السياسي والتاريخي تعرف كثيرا من أشكال التغير اليوم في عالمنا، إلا أن هذا الأمر لا يستبعد مسألة الاستماع إلى مواقف وجهود المثقفين الذين يواصلون عنايتهم بالشأن العام، ويقترحون تصورات محددة لمجابهة أعطاب ومآزق مجتمعاتهم.
لا نستطيع أن ننفي أدوار المثقف والمثقفين في مجتمعنا. قد نسجل تراجعات معينة في زمن بعينه إلا أن ذلك لا ينفي أبدا أدوار المثقفين سلبا وإيجابا، ففي ظروف مماثلة لما نعيشه في المغرب اليوم يمكن أن نتحدث عن توجس النخب المثقفة من الانكفاء الذي يمكن أن يحصل ويعطل مكاسب التحديث في مجتمعنا، إلا أن ما يجري إلى حدود هذه اللحظة لا يجد في الواقع معطيات تسمح له بتجاوز المكاسب التي حصلت، وفي ثقافتنا شواهد عديدة على ما نقول، رغم مظاهر الخيبات والتراجعات القائمة، والتي تملأ اليوم في إطار المد الوسائطي كثيرا من فضاءات الافتراضي في عالمنا، ففي أدبنا مازالت تصدر إبداعات تحلق عاليا لتعانق قيم الإنسان والتاريخ والحرية، وفي فكرنا مازال بإمكاننا أن نقرأ بصوت عال مصنفات العروي ونتغنى معه بلغة التاريخ عن مغرب الحداثة والمستقبل.
كمال عبد اللطيف مفكر مغربي رئيس مؤسسة الدراسات والأبحاث والتكوين