تحرير الكلام في السياسة 

17 مارس 2015 - 18:59

مواجهات سياسية عنيفة تدور رحاها في المغرب هذه الأيام بين عبد الإله بنكيران وأحزاب المعارضة.. تجمعات وتجمعات مضادة، مسيرات ومسيرات مضادة، اتهامات واتهامات مضادة، وفي السياسة، كما في الجنس، كل الضربات مباحة بما في ذلك الضرب تحت الحزام…

بنكيران أخرج مدفعيته الثقيلة، واختار أن يقصف المعارضة من تطوان والدشيرة والراشيدية والرباط، ويستعد في الأيام المقبلة لتنظيم تظاهرات حاشدة في ربوع المملكة للرد على خصومه، حيث اختار الشارع هذه المرة ليستعرض قوة شعبيته ويبعث رسائل إلى من يهمه الأمر…

المعارضة اختارت أن توظف 8 مارس هذا العام، وجعل مطالب النساء بالمساواة والكرامة والحقوق مناقضة كليا للحكومة ورئيسها، واختارت أن تعطل التشريع في البرلمان بدعوى أن الحكومة تنفرد بالإعداد للانتخابات المقبلة، ثم ختمها الرفيق إدريس لشكر بتشبيه بنكيران بهتلر! ودعوة الملك محمد السادس إلى التدخل بينه وبين بنكيران لإنقاذ البلاد من منزلقات المرحلة وكل عام والملكية البرلمانية بألف خير…

هذه المعارك، على عنفها وانزلاقاتها، ليست كلها سيئة بالنسبة إلى تطور الحياة السياسية المغربية التي كانت دائماً حياة نخبوية تستعمل فيها الإشارات المرموزة ونميمة الصالونات ورسائل المبعوثين الخاصين من وإلى القصر فيما الشعب في دار غفلون، كان الجميع يرتب أوراقه بعيدا عن الرأي العام في غالب الأحوال ولا يرى الناس إلا «التشاش». 

الاحتكام إلى الرأي العام جزء من الممارسة الديمقراطية، والتواصل السياسي هو وقود الحراك الديمقراطي، والمناظرة والجدال والاختلاف هو الذي يورط الناس أكثر في السياسة، ويحثهم على الاختيار، أي على دخول اللعبة وترك كراسي المتفرجين.

نعم هناك الكثير من الملاحظات على المعارك السياسية الراهنة بين سياسيينا، ومنها أنها معارك يطغى عليها البوليميك عوض الأفكار، الجدل عوض البرامج، والسب عوض النقد، الشخصي عوض الموضوعي، تقطار الشمع عوض وجادلهم بالتي هي أحسن، لكن ما العمل؟ هذا هو مستوى البلد ونخبه وسياسته وثقافته، الله غالب، لن نستورد نخبا من سويسرا أو كندا أو الدانمارك، علينا أن نتعامل مع هذه الوجوه، وأن نحرجها بالنقد ونطورها بالملاحظة والتجربة…

لهذه الحكومة فضل إخراج الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة إلى الشارع، قبل هذه الحكومة كانت أصوات المعارضة تصرخ لكن بالشعارات وليس بالملفات والأرقام والإحصائيات. لم يكن المغاربة يعرفون بدقة موضوع صندوق المقاصة وملياراته، ولا صناديق التقاعد وإفلاسها، ولا مشاكل المديونية وأرقامها، ولا كواليس علاقة القصر بالحكومة وقيادتها. كانت الحكومات السابقة تلوذ بصمت القبور، وإذا تحدث وزراؤها فلغة الخشب لا تفارق جلهم، خذوا مثلا الأربعة وزراء الأولين السابقين.. عبد اللطيف الفيلالي لم يكن يفهم المغاربة ولا هم كانوا يفهمونه، ولم ينتظروا منه شيئا، ولا هو وعد بشيء. جاء إلى الحكومة في الوقت الضائع، وخرج دون أن يسأل عنه أحد. عبد الرحمان اليوسفي رغم أنه قاد تجربة كبيرة للتناوب الثاني فإنه خرج من باب صغير، ولم يفتح فمه إلا بعد أن صدم بالخيار التقنوقراطي يرجع بعد فشل تجربة التناوب، وتعيين جطو وزيرا أول، عندها فقط سافر إلى بروكسيل، ونعى التجربة الحكومية بلغة لا يفهمها إلا الراسخون في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ثم رجع إلى بيته، وأغلق عليه الباب، ولم يشرك أحدا في ما جرى. إدريس جطو من اليوم الأول اعتبر نفسه كبير الوزراء، مكلفا بحل مشاكل التدبير وإنعاش الاقتصاد وزيادة كيلومترات الطرق السيارة، وخفض عدد موظفي الإدارة، واستكمال الخصخصة، أما السياسة فتركها لأصحابها، لهذا لم يتحدث للصحافة إلا نادرا ولسانه يردد: «الله يخرج سربيسنا على خير»، ومع ذلك عندما خرج من رئاسة الحكومة بأشهر تبعه بلاغ الوكيل العام للملك في الدار البيضاء يتهمه بتهمة ثقيلة، ومنذ ذلك اليوم والرجل في الظل إلى أن دخل إلى المجلس الأعلى للحسابات. أما الأستاذ عباس الفاسي، فإنه كان واضحا منذ اليوم الأول عندما خرج من القصر الملكي يحمل ظهير التعيين في الوزارة الأولى، قال للصحافة: «برنامجي في الحكومة هو الخطب الملكية وتوجيهات جلالته». جاء الرجل إلى الوزارة الأولى مثقلا بفضيحة النجاة وبأمراض الشيخوخة، وبأعطاب حزب ما عاد كما كان، لهذا ظل عباس يمشي على البيض إلى أن داهمه الربيع العربي، فوضع المفاتيح وفر إلى بيته…

هؤلاء جميعا لم يتحدثوا مع الناس باللغة التي يفهمونها، ولا صارحوهم بالصعوبات التي لاقتهم في الطريق، ولا أشركوهم في هموم السياسة والقرار، حتى جاء بنكيران من خارج النسق التقليدي للسياسة والحكم، وقرر ألا يتلقى الضرب ويصمت.. قرر أن يعطي الكلام مكانه، والتواصل صدارة العمل، وإتباع القرار بالتسويق، والذي لا يستطيع أن يقوله صراحة يسكبه في فم العفاريت والتماسيح والأمثال الشعبية، وما لا يستطيع كرئيس الحكومة اتخاذه من قرارات يعوضه بالكلام والتواصل والشكوى والصراخ والسخرية كزعيم سياسي فيما الناس يتابعونه ويفهمونه ويتفاعلون معه، قبولا ورفضا، حبا وبغضا، وهذا هو المطلوب، أن يخرج الناس من سلبيتهم ولا مبالاتهم…

الهدف في النهاية هو أن نورط أكبر عدد من المواطنين في السياسة، أي في اختيار من يحكم، وألا يبقى الشعب في دار غفلون، بعدها ليقرر ما يشاء…

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

omar منذ 9 سنوات

في دول غير عربية يكون الصراع على من ينتج ويعطي أكثر للبلاد, ويعمر الأرض بما امر الله لصالح العباد,وعندنا الصراع على الكراسي ومحاولة قتل العدو, وكانهم في حرب ضروس, ونسيان مصالح الوطن والمواطنين/ تقوم الحرب ويسمونها انتخابات,ويموت الناس ويسمونها معارضة ,وينهبون الأرض بما فوقها وتحتها, ويسمونه اقتصاد , الخ ،،الخ ,,الخ /

لخبطة لغوية منذ 9 سنوات

مشكلة بن كيران في لسانه الطويل و "انفصام "شخصيته اللغوية ، إنه سكيزوفرينيا سياسية بامتياز

elmehdiboutalha منذ 9 سنوات

كلامك صآئب يآأستاذي بوعشرين.شخصيا لم أكن متتبعا لأشغال البرلمان منذ سنة1977ولم أشاهد طيلة هاته الفترة تصريحات أعضآئه ولا تصريحات الوزرآء الأولين الذين كانوا يأتونه للتصريح ببرنامجهم الحكومي ,الى أن جآء هذا الظاهرة فعلا الأستاذ عبد الاله بنكيران فكسر لنا هذه الحواجز بيننا وبين البرلمان .ولآ أخفيكم سرا أنه عندما يتم الاعلان عن الجلسة الشهرية لمسآءلة رئيس الحكومة في البرلمان أقوم بترتيب عملي ووقتي حتى أجلس لمشاهدته فأستمتع بكلامه وردوده ومقارعته للمعارضة المشوشة من اجل المعارضة وافحامه لها مستخدما في ذلك قاموسا جديدا لم نألفه فيما مضى عبارة عن أمثال ونكث ومستملحات مستوحاة من الواقع الشعبي المغربي, وأعتقد أن هذا هو سر نجاحه وتفوقه على زعمآء المعارضة.

عبد الرحمان معطلاوي منذ 9 سنوات

كلام معقول أسي توفيق ، لكل مرحلة لغتها و رجالاتها

ABDENBI منذ 9 سنوات

سياسة الحلقة والتهريج والتسنطيح ليست هي البديل عن سياسة التعتيم ... هل حقا أصبح الشعب يعرف ما يدور في الكواليس .. وكيف تصنع القرارات التي يعمل رئيس الحكومة على تنفيذها دون مناقشة ؟ هل هو حسن النية الذي يتحكم في هذا المقال ؟؟

المهدي ج منذ 9 سنوات

ممتاز سي بوعشرين. أجدد لك الشكر على موضوعيتك وعدم مسايرة السماسرة في ميدان الصحافة. فجريدتكم أخبار اليوم أصبحت تبدو لي كالندى في الصباح العليل. المهدي . متتبع من مراكش

موسى منذ 9 سنوات

بارك الله فيك سيدي توفيق فقد وفقت

Nki dagh منذ 9 سنوات

Je suis pas sûr que c'est gràce ã benkirane les règles jeu sont plus comme avant .. Il faut reconnaître que l'Internet et surtout facebook ã changer les données .. Personne ne peut plus faire comme avant y compris monsieur le roi ..

doubk منذ 9 سنوات

كلام واقعي سي توفيق.يقول علماء الإجتماع إن المجتمع الذي يريد أن يتطورويتقدم؛ لابد أن تكون فيه فكرتان متضاضتان.تماما كالإنسان لديه رجلين.اي الحكومة والمعارضة؛إذن لكي تحكم يجب أن تجتهد كثيرا لتستميل الناخبين؛طبعا وفق الأعراف الديموقراطية؛

التالي