في مذكرتها المقدمة إلى الديوان الملكي، طالبت أحزاب المعارضة بشكل غير مباشر بدفع رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران إلى الكف عن الحديث. هل ذلك ممكن؟ وهل يعتبر ذلك دستوريا؟
أحزاب المعارضة تطالب بتحكيم ملكي في علاقة بتصريحات رئيس الحكومة، الأمين العام لحزب سياسي. فهل الملك حكمٌ؟ الجواب هو «لا»، لأن الملك حكمٌ أعلى، أي بين مؤسسات الدولة. الأمر يتعلّق بمهمة لا يمكن ممارستها إلا في حال وقوع نزاع، أو صراع، بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
في الفقه الدستوري المغربي، يحتاج مفهوم الحكم الأعلى إلى بعض التوضيح، فالأمر يتعلّق بحَكم، هذا صحيح، لكنه حكم من نوع خاص، حكم يتولى مهمة عامة، حدّدها الفصل 42 من الدستور، والتي تعني ضرورة بروز مفهوم خاص للصالح العام. فهذا المفهوم يجعل الملك فوق الأحزاب وسلطة عليا قادرة على تجسيد كل من إرادة للحياة الوطنية والشرعية الوطنية، والتي تستمدّ مشروعيتها، أيضا، من مصدر جوهري هو إمارة المؤمنين.
لكل هذا يتمتع الملك بوزن خاص يجعله يلعب دور المصالحة، أو القاضي في حال عدم تحققها، لكنه ليس هيئة تحكيم مهمّتها فضّ الخلافات بين الأحزاب السياسية أو بين رئيس الحكومة وباقي الهيئات السياسية. وبقدر ما هو حكم فوق الأحزاب فهو ليس حكما بين الأحزاب. الملك هو الحكم- القائد، وهو مخوّل بهذه المهمة التقنينية عبر مقتضيات المادة 42 من الدستور. وتحكيمه السامي هذا لا يتمظهر في شكل مهمة بقدر ما هو طريقة في العمل لشغل مهمة شاملة موكولة إليه عبر الدستور. أي أنه مرتبط بدفتر للتحملات يفرض عليه تحقيق مجموعة من الأهداف من قبيل ضمان دوام واستمرارية الدولة، واحترام الدستور، والسير الجيّد للمؤسسات.
لكن، هل في الوضع الحالي ما يستوجب التحكيم الملكي؟
عليّ توضيح بعض الأمور أولا، مذكّرة أحزاب المعارضة الأربعة الموجهة إلى الملك لا تطالب بفرض الصمت على رئيس الحكومة، ولو كان الأمر كذلك لتمّ رفض طلبها. ما طلبته أحزاب المعارضة هو إعادة تأطير تصريحات عبد الإله بنكيران، من خلال إلزامه بعدم العودة إلى الإيحاء بطريقة أو بأخرى، أن حزبه هو المفضل لدى الملك. لكن السؤال الذي يطرح هو، هل فعلا هناك ما يستدعي إعادة التأطير؟ ألم يكن الملك سيكون أول المبادرين إلى تذكير بنكيران بحدود صلاحياته لو أنه فعلا تجاوزها؟ لذلك فمذكرة المعارضة تطرح إشكاليتين على الأقل:
الأولى سياسية، ومفادها أن أحزاب المعارضة حاولت أن تثبت أنها هي أيضا تتمتع بدعم الملك، وكانت تتوقع استقبالا رسميا يتبعه صدور بلاغ عن الديوان الملكي، وهو ما لم يحدث. لقد تم الاكتفاء بالحد الأدنى من التفاعل وهو ما شعرت به الأحزاب الأربعة التي لم تستقبل سوى من طرف مستشارين ملكيين. وهذان المستشاران يقتصر اختصاصهما على الاستماع لا أقل ولا أكثر.
الإشكالية الثانية: قانونية وتنبع من سؤال، هل يمكن للملك أن يصبح حكما في خلاف بين رئيس الحكومة والمعارضة؟ الجواب هو لا، إذ لا يوجد أي قانوني جاد يمكنه الدفاع عن العكس.
قيادون في حزب الاتحاد الاشتراكي دفعوا بحجة مفادها أن الدستور اعترف بالمعارضة البرلمانية وأن ذلك يجعلها مؤسسة؟
أجل، دفع بذلك كل من إدريس لشكر، ثم يونس مجاهد في برنامج تلفزيوني. لكن هل يعني ذلك أن الأحزاب السياسية، سواء أكانت أغلبية أو معارضة يمكن إدراجها ضمن مؤسسات الدولة؟ الجواب البديهي هو لا. ذلك لأن الأحزاب لا تشكّل مؤسسات الدولة، بل تنتمي إلى النظام السياسي، أي بنية أخرى مختلفة عن الأبعاد التي تؤسس الدولة. قد يدفع البعض بحجة إعمال التحكيم الملكي من خلال استقبال الملك للأمين العام لحزب الاستقلال سنة 2013، لكن هذه المقارنة غير صحيحة. لقد كنا حينها في إطار قرار حزب ينتمي إلى الحكومة قرّر الانسحاب منها، وهو ما يمكنه أن يضر باستقرار حكومة بنكيران، وعلى هذا الأساس كان الملك مخوّلا بناء على المادة 42 من الدستور بالتدخل لضمان حسن سير المؤسسات الدستورية، والتي هي الحكومة والبرلمان. وإذا أردنا الذهاب أبعد، هل شهدنا في هذه الحالة نفسها تحكيما ملكيا؟ حيث كان هناك استقبال ملكي وتسليم مذكرة حزب الاستقلال للملك دون تقديم أي إشارة إلى هذا الزعيم السياسي بالذهاب في هذا الاتجاه أو ذاك. لقد كان الأمر مجرّد مجاملة بروتوكولية لا أكثر، وكان الأمر سيكون تحكيما لو أن حزب الاستقلال غيّر موقفه بعد ذلك الاستقبال.
هل تقبل الثقافة «المخزنية» برجل دولة من هذا النوع، أي رجل دولة «يتحدّث»؟
وهل تملك هذه الثقافة المخزنية التي تتحدّث عنها بديلا آخر؟ بل تدبّر بطريقة جيّدة أسلوب بنكيران وقاموسه وتصريحاته وطريقته الخاصة في التحرّك داخل الحقل السياسي المغربي. وبنكيران يعرف الحدود التي لا ينبغي عليه تجاوزها، ولا ينفكّ يؤكّد أنه يشتغل تحت سلطة الملك، ويوالي تصريحاته المجسّدة لولائه للملك، ولا يتردّد في التذكير بأنه ينفّذ توجيهات الملك، وأنه لا يفعل إلا ما تمت الموافقة عليه. وقد أعطى المثال مؤخرا بالدعم المباشر للأرامل الذي حُسم بقرار ملكي. ثم إن هناك معادلة بين الثمن والفائدة، أي أن بنكيران يقود قطبا إصلاحيا مدافعا عن الاستقرار وهو اختيار له ثمن من حيث الشعبية، يتحمله بنكيران، لكنّه يجني سلما اجتماعيا رغم جمود الحوار الاجتماعي مع النقابات.
*مصطفى السحيمي: أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري