حين قتل الثوار السوريون الرجل المختبئ في بيت صغير في بلدة «تل رفعت» السورية مطلع السنة الماضية، لم يكونوا على علم بهوية القتيل، لكنهم بعد ساعات علموا أن الجثة التي بين أيديهم لواحد من أخطر القادة المخططين في تنظيم «داعش» المرعب.. لقد قتلوا «سيد الظلال» أو العقيد حاجي بكر، الرجل الذي كتب بخط يده استراتيجية دولة البغدادي. في المنزل الصغير الذي قتل فيه بكر بعد أن تبادل إطلاق النار مع مقاتلين من الجيش الحر وجبهة النصرة، عثر على كتيب وضع فيه البعثي العراقي السابق خطة تمدد «الدولة الإسلامية».
من يكون سيد الظلال
ذو شخصية تميل إلى العزلة، مهذب، شديد الانتباه، رابط الجأش، لكنه مخادع وغامض، وعدواني.. المتمردون من شمال سوريا يتذكرون لقاءات جمعتهم به قبل أشهر. لقد كان رجلا بأوجه متعددة، لكنهم يجمعون على شيء واحد: «نحن لم نكن نعرف بالضبط الشخص الذي كنا نجلس قبالته».
في الواقع، حتى أولئك الذين أطلقوا عليه النار وقتلوه في مواجهة قصيرة بالرصاص، في بلدة تل رفعت في أحد صباحات يناير في عام 2014، لم يعرفوا الهوية الحقيقية للرجل ذي القامة الطويلة والذي يقارب عقده السادس. لقد كانوا يجهلون أنهم قتلوا الرئيس الاستراتيجي للجماعة التي تطلق على نفسها «الدولة الإسلامية». الثوار المحليون وضعوا الجثة في الثلاجة بهدف دفنها، لكنهم عندما أدركوا أهمية الرجل في وقت لاحق، أخرجوا الجثة مرة أخرى.
كان سمير عبد المحمد الخليفاوي هو الاسم الحقيقي لهذا العراقي ذي اللحية الرمادية، والذي لم يعرفه أحد بهذا الاسم، فالاسم المستعار «الحركي» الذي عرف به هو حاجي بكر، أو «سيد الظلال» كما أطلق عليه الأعداء والمناصرون. حاجي بكر، العقيد السابق في جهاز المخابرات، والمسؤول في قوة الدفاع الجوي للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، كان قد ساهم في قيادة الدولة الإسلامية في العراق لسنوات، إلى درجة أن أعضاء سابقين في الجماعة مازالوا يعتبرونه واحدا من رموزها، ومع ذلك، فإن دوره لم يكن واضحا بالضبط.
عندما قتل حاجي بكر، أو مهندس الدولة الإسلامية، خلف وراءه شيئا ظل محاطا بسرية تامة: مخطط كامل لهذه الدولة خط في مجلد بخط اليد يتضمن الخطط التنظيمية، الخرائط، والقوائم والجداول الزمنية، التي تصف كيف يمكن إخضاع البلدان المستهدفة تدريجيا. مخططات قديمة وأخرى وضعت حديثا تتناول الوضع الفوضوي في الأراضي التي يسيطر عليها الثوار في سوريا. وفي الواقع، فإن الكتاب الذي وقعت عليه صحيفة «دير شبيغل» الألمانية، يتضمن الوثائق التي تشكل عماد الجيش الإرهابي الأكثر نجاحا في التاريخ الحديث.
تجسس الجميع على الجميع
ما كتبه حاجي بكر لم يكن بيان بيعة شرعية، أو له علاقة بالعقيدة، ولكنه كان خطة دقيقة من الناحية الفنية لمخابرات الدولة الإسلامية، وقد تم تنفيذ هذا المخطط بدقة مذهلة في الأشهر التي تلت ذلك. كانت الخطة تقتضي افتتاح مكتب للدعوة، وهو مركز إسلامي، ومن أولئك الذين جاؤوا للاستماع إلى المحاضرات وحضور دورات عن الشريعة الإسلامية، يتم اختيار واحد أو اثنين من الرجال، وإعطاؤهم تعليمات للتجسس على قراهم، والحصول على مجموعة من المعلومات.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، ضمت قوائم حاجي بكر الأسر القوية، وأسماء الأفراد الأقوياء فيها، ومعرفة مصادر دخلهم، وأسماء وأحجام الثوار في القرية. ومعرفة أسماء قادتهم الذين يسيطرون على الألوية، وميولهم السياسية. وكان أهم شيء يطلب من الجواسيس معرفة أنشطتهم غير المشروعة (وفقا لأحكام الشريعة) كأن يكون منحرفا أو شاذا، والتي يمكن أن تستخدم للابتزاز إذا لزم الأمر. وضمن الوثائق، كما قال بكر: «سوف نعين أذكى الشخصيات في مناصب شيوخ الشريعة. سوف ندربهم لفترة من الوقت ثم نرسلهم للعمل»، وأضاف: «إن الكثير من الإخوة سوف يجري اختيارهم في كل بلدة للزواج ببنات العائلات الأكثر نفوذا، حتى يمكن ضمان اختراق تلك العائلات في غفلة منها».
وشملت المخططات أيضا مجالات مثل التمويل، والمدارس، ووسائل الإعلام والنقل، ولكن ما كان يتكرر باستمرار، في الخرائط وقوائم المسؤوليات التنظيمية: المراقبة والتجسس والقتل والخطف.
وحسب مخطط حاجي بكر، فإن صلاحيات الأمير، أو القائد، تجعله مسؤولا عن جرائم القتل والاختطاف والاتصالات والتشفير، وكذلك تعيين أمير للإشراف على أمراء آخرين «في حال لم يؤدوا واجباتهم بشكل جيد». إنها مثل خلية شيطانية تهدف كتائبها إلى نشر الخوف.
تتشكل دائرة المخابرات العامة في «داعش» من «أمير الأمن» في المنطقة، والذي يعد مسؤولا عن أمراء في المناطق الأقل أهمية، ورئيس خلايا التجسس السرية و«مدير جهاز المخابرات والمعلومات»، وكان الهدف أن يراقب الجميعُ الجميعَ.
بين العقيدة والتخابر
كان حاجي بكر ببساطة يعيد ما تعلمه في الماضي، حين كانت الأجهزة الأمنية منتشرة في كل مكان في عهد صدام حسين، والتي لم يفلت منها أحد، فحتى الجنرالات الكبار في جهاز المخابرات كانوا يتعرضون للتجسس.
هناك سبب بسيط يفسر غياب أي إشارة في كتابات حاجي بكر إلى الاعتماد على الدين لإنشاء دولة إسلامية، فقد قال إنه يعتقد أن المعتقدات الدينية المتعصبة وحدها لن تكون كافية لتحقيق النصر، لكنه يعتقد أنه يمكن استغلال إيمان الآخرين، وعندما قُتل لم يجد الثوار مصحفا واحدا في بيته.
في عام 2010، كان بكر يفكر، مع رفاقه في المخابرات العراقية السابقة، في أبي بكر البغدادي، الذي صار أميرا، ولاحقا «الخليفة» الرسمي لـ«لدولة الإسلامية»، حيث اعتبروا أن البغدادي، وهو رجل الدين المتعلم، هو النموذج الذي سيعطي للمجموعة وجها دينيا.
في الغزو الأمريكي اختبأ بكر في ملجأ تحت الأرض، والتقى أبو مصعب الزرقاوي في محافظة الأنبار في غرب العراق. وكان الزرقاوي قد اكتسب سمعة عالمية باعتباره العقل المدبر للهجمات التي شنت ضد التحالف والقوات الأمريكية والشيعة، وكان أكثر راديكالية من زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن.
بكر كان واحدا من القادة العسكريين في العراق، واحتجز ما بين 2006 و2008 في سجن الجيش الأمريكي في أبوغريب، ونجا من القتل من قبل وحدات خاصة أمريكية وعراقية. عندما اندلعت الانتفاضة ضد بشار الأسد في سوريا المجاورة، وجد حاجي بكر وقادة التنظيم فرصة. كان هناك مئات من المجالس الثورية والكتائب المقاتلة، وهو ما جعل مجموعة من الضباط السابقين يسعون إلى استغلالها.
بعد عام واحد، كانت مكاتب الدعوة التي تم فتحها في العديد من المدن في شمال سوريا في ربيع عام 2013 مكاتب دعوية لا تثير التوجس، ولا تختلف عن تلك التي تفتحها الجمعيات الخيرية الإسلامية في جميع أنحاء العالم.
وعندما فتح مكتب الدعوة في الرقة «كان كل ما يقولونه إنهم إخوة، ولم يتلفظوا بكلمة واحدة عن الدولة الإسلامية»، يقول أحد سكان المدينة، ويضيف: «عندما اندلع القتال في يناير علمنا أن داعش قد استأجرت بالفعل العديد من الشقق حيث يمكنها تخزين الأسلحة وإخفاء رجالها».
وفي المدن التي كان فيها الكثير من المقاومين، أو حيث لم تتمكن «داعش» من تأمين ما يكفي من المناصرين، اختارت أن تنسحب مؤقتا. في البداية، كانت طريقة عملها تقوم على التوسع دون المخاطرة بمواجهة مقاومة مفتوحة، لكنها لجأت إلى اختطاف وقتل «الأفراد»، منكرة في الوقت نفسه أي تورط في هذه الأنشطة الشائنة.
كان حاجي بكر يمنع صراحة المقاتلين العراقيين من الذهاب إلى سوريا، كما اختار أيضا عدم تجنيد عدد كبير من السوريين، وبدلا من ذلك اختار، إلى جانب قادة «داعش»، التكتيك الأكثر تعقيدا، حين قرروا جمع كل المتطرفين الأجانب الذين وصلوا إلى المنطقة منذ صيف عام 2012.
وبالفعل، وبحلول نهاية عام 2012، أقيمت معسكرات في عدة أماكن، في البداية، لم يكن أحد يعرف ما هي الجماعات التي ينتمي إليها هؤلاء. وفي خريف عام 2013، وحسب ما ذُكر في المجلد، فإن 2650 من المقاتلين الأجانب تجمعوا في محافظة حلب وحدها.
وفي وقت لاحق أيضا، أصبح عدد الجهاديين يفوق الثوار السوريين. وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك شنآن بين الطرفين، لم يوحدا القوى في ما بينهما، واستمرت «الدولة الإسلامية» في التوسع، واستعملوا خدعة بسيطة: حيث كانوا يرتدون أقنعة سوداء، ولم يكن ذلك فقط لإخافة الناس، ولكن أيضا لكي لا يتمكن أحد من معرفة عددهم أو وجوههم.
السيطرة على الرقة
كانت الرقة مدينة هادئة على نهر الفرات، وستصبح النموذج المتكامل لغزو «داعش». فعندما سقطت الرقة في يد الثوار في مارس 2013، انتخب مجلس المدينة بسرعة، ونظم المحامون والأطباء والصحفيون أنفسهم، وتم تأسيس الاتحادات النسائية، وتأسست جمعية الشباب الحرة، كما ظهرت حركة «من أجل حقوقنا» وعشرات غيرها من المبادرات.
وحسب خطة حاجي بكر، جاءت مرحلة القضاء على كل شخص قد يكون زعيما محتملا أو خصما. اختُطف رئيس مجلس المدينة، وبدأ الرعب يسري في الرقة. اختفى العشرات ثم المئات من الناس، وعثر على بعض الجثث. في غشت من سنة 2013، أرسل حاجي بكر سيارتين يقودهما انتحاريان إلى مقرات جهادية تابعة لفصائل أخرى، ما أسفر عن مقتل العشرات من المقاتلين وفرار القيادات.
يوم 17 أكتوبر 2013، دعت «الدولة الإسلامية» كل قادة المجتمع المدني ورجال الدين والمحامين في المدينة إلى عقد اجتماع. ومن بين 300 شخصا حضروا الاجتماع، انتقد اثنان فقط الاختطاف المستمر، وعمليات القتل التي ترتكبها «داعش». كان واحدا من الاثنين هو «مهند حبايبنا»، وهو ناشط حقوقي وصحفي معروف في المدينة، وعثر عليه بعد خمسة أيام مقيدا وقد أعدم بطلق ناري في رأسه، وتلقى الأصدقاء على البريد الإلكتروني رسالة مجهولة المصدر مع صورة من جسده. وتضمنت الرسالة جملة واحدة فقط: «هل أنت حزين عن صديقك الآن؟»، وخلال ساعات فر نحو 20 شخصا من قيادات المعارضة إلى تركيا.
مقتل حاجي بكر
حتى نهاية عام 2013، كان كل شيء يسير وفقا لخطة «الدولة الإسلامية»، أو على الأقل وفقا لخطة حاجي بكر. الخلافة كانت تتوسع بلدة بلدة، دون أن تواجه مقاومة موحدة من الثوار السوريين.
لكن في دجنبر من عام 2013، حدث شيء غير متوقع، ففي جميع أنحاء البلاد، اتحدت الألوية السورية العلمانية وأجزاء من جبهة النصرة المتطرفة، واتفق الجميع على محاربة «الدولة الإسلامية» من خلال الهجمات المنسقة والمتزامنة، واستعملوا مخططا يقوم على التنكر في ملابس تشبه الألبسة السوداء التي يرتديها مقاتلو «الدولة الإسلامية».
وفيما بقي حاجي بكر في المدينة الصغيرة تل رفعت، حيث كان يوجه منها الأوامر، شن الثوار هجوما مباغتا على البلدة في نهاية يناير من عام 2014، وفي بضع ساعات أصبحت المدينة منقسمة، حيث بقي نصفها تحت سيطرة «داعش»، بينما انتزع أحد ألوية الثوار النصف الآخر، وكان حاجي بكر عالقا في النصف الخطأ. لم يكن أحد في القرية يعلم مكانة حجي بكر الذي يسكن بين ظهرانيهم، وكان موجودا في القسم الذي تسيطر عليه المعارضة، فاختار البقاء وعدم الانتقال إلى القسم الذي تسيطر عليه «الدولة» لكي لا يلفت النظر، لكن أحد السكان المجاورين دل مقاتلي المعارضة على حجي بكر قائلاً لهم إن شيخا داعشيا يسكن بيتا صغيرا فدقوا الباب. خرجت امرأة ونفت وجوده. لاحظ المقاتلون سيارة متوقفة قرب المنزل فرفضوا الانسحاب. خرج إليهم حجي بكر بملابس النوم، فأمروه بالذهاب معهم، فطلب إمهاله لتبديل ملابسه فرفضوا. دخل حجي بكر بسرعة وأغلق الباب وقال إنه يلبس حزاماً ناسفا ثم خرج بالبندقية وهو يطلق النار فأردوه قتيلا دون أن يعرفوا هويته! وحين عرفوا من يكون عادوا إلى المنزل وفتشوه، وصادروا الحواسيب وجوازات السفر وبطاقات الهاتف وجهاز تحديد الموقع وعدة أوراق، ولم يجدوا مصحفا في أي مكان. فيما بعد، تمت صفقة لتبادل الأسرى بطلب من أنقرة، حيث تم إطلاق سراح رهائن أتراك لدى «الدولة الإسلامية»، مقابل الإفراج عن زوجته الأسيرة لدى المعارضة.
* عن «لوموند» بتصرف