عكس المتوقع، لا جبن ولا مشروبات غازية، ولا عجائن، ولا عصائر قادمة من الجزائر كما كان الأمر في السابق، هو إختفاء “غير طبيعي” لمواد كانت تزين مائدة إفطار فئة عريضة من سكان وجدة والنواحي، ولم تعد الشوارع التي تتقاطع عند باب سيدي عبد الوهاب، مركز المدينة، تتنافس كما في السابق على عرضها.
هناك أكثر من تفسير لهذا “الاختفاء”، يترابط فيها ما له علاقة بالوضعية الجديدة التي باتت عليها الحدود، وما تشنه السلطات المحلية من حملات على الباعة المتجولين، الذين يروجون لهذا النوع من التجارة، بالإضافة إلى قضية اكتشاف مواد استهلاكية فاسدة كانت معدة للترويج بوجدة، على غرار مجموعة من المدن المغربية، ثم تنامي الوعي بالأضرار الصحية التي قد تتسبب فيها هذه المواد.
قاعدة ما خف وزنه وغلا ثمنه
منذ أن تغير الوضع في الحدود المغربية الجزائرية بتشييد منشآت هندسية جديدة، وتشديد الإجراءات الأمنية، بدأ المهربون يركزون نشاطهم على مواد بعينها دون أخرى انسجاما مع قاعدة “ما غلى ثمنه وخف وزنه”.
و”باستثناء المحروقات التي أل الاختصاص فيها للحمير، لم يعد المهربون يميلون كما في السابق إلى تهريب كل شيء، إذ بات من المهم التمييز بين المواد التي يهربونها”، يقول أحد العاملين في مجال التهريب المعيشي، رفض كشف هويته، والذي أقر أن الوضع الجديد في الحدود دفع بالعديد من المهربين إلى الاستغناء عن تهريب العديد من المواد الغذائية، التي كانت تهرب بالخصوص في شهر رمضان.
تقارب في السعر
“من غير التمور وزيت المائدة، المواد الاستهلاكية الأخرى لا فرق شاسع في السعر بينها وبين المواد الاستهلاكية المغربية أو حتى المستوردة”، يؤكد البشير، تاجر من مدينة بني درار إحدى المناطق الحدودية التي تشتهر بتجارة المواد المهربة من الجارة الجزائر، الذي كشف معطيات مثيرة حول حركة التهريب والسلع التي تلج عن طريقه، وقال “إن المشروبات الغازية أخذت اتجاها معاكسا، فبعدما كانت تغرق السوق المحلية المشروبات القادمة من الشرق انقلب الأمر، وبات المهربون يهربونها في الاتجاه المعاكس، أي من المغرب الى الجزائر”. وأضاف، أن أسعار المواد الاستهلاكية المهربة، التي أصبح لا فرق بينها والمواد الوطنية، كان السبب الأول الذي أدى إلى اختفائها من السوق المحلي.
استمرار الركود
أكد جل العاملين في مجال التهريب المعيشي، الذين استقى “اليوم24” أراءهم أن التحولات التي عرفتها المنطقة، وتعاطي السلطات مع الظاهرة، فرضت نوعا من “الركود” في قطاع تجارة المواد الاستهلاكية المهربة، وظهر هذا جليا منذ العام الماضي، وهو ما يؤكده أيضا التقرير الأخير لمرصد محاربة التهريب التابع لغرفة التجارة والصناعة والخدمات بوجدة، الذي يشير إلى أن عام 2014، شهدت رواجا محتشما في التهريب من الناحية الشرقية، أي من الجزائر وتزايدت معه من الناحية الشمالية أي من مليلية المحتلة، وتجسد هذا وفق المصدر نفسه “في الكميات ونوعية السلع المعروضة لدى التجار أو الباعة المتجولين”، والسبب في ذلك يرجع بالأساس وفق المصدر إلى “تكثيف الحملات على المحلات والمخازن المشتبه فيها بترويج السلع المهربة، ومحاربة التجارة الفوضوية، وتحرير الملك العام، والاستعانة بأجهزة الرادار والكاميرات المثبتة في بعض النقط الحدودية المعروفة بعبور المهربين على مستوى الشريط الحدودي”، دون أن يغفل التقرير التوترات التي شهدتها بعض النقط الحدودية نتيجة “تدخلات حراس الحدود الجزائريين.. والتي كان ضحيتها إما رعاة مغاربة أو فلاحين، أو ممتهني التهريب”.
تعليمات الداخلية
عملية اكتشاف المواد الغذائية، التي كانت معدة للاستهلاك بمخزن بالحي الصناعي في وجدة، والتي تعود ملكيتها لتاجر فاس الذي أوقفه المكتب المركزي للأبحاث القضائية التابع للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني بمدينة فاس، ألقت بضلالها على وضعية تجارة المواد المهربة بالمدينة، حيث أصبحت السلطات المحلية تتعامل بصرامة في هذا الموضوع، إذ شكلت، منذ اليوم الأول من شهر رمضان، لجنة لمحاربة احتلال الملك العام، التي شنت حملات على نطاق واسع في المدينة، ما أفضى إلى القضاء شبه التام على العربات المجرورة وأصحاب الدرّاجات الثلاثية العجلات، التي تستعمل في عرض بعض السلع، خصوصا في أهم شوارع وجدة ووسط المدينة.
وأكد مصدر من اللجنة المذكورة في تصريح لـ”اليوم24″، أن تعليمات صارمة وجهت إلى هذه اللجنة الدائمة لفرض “القانون” بهذه المناطق، والحجز الفوري على أي عربة تعرض موادا، سواء كانت مهربة أو وطنية، لأن الحملة تهدف إلى محاربة كل أشكال الفوضى وتجنيب المواطنين خطر التعرض لأي متاعب صحية نتيجة استهلاك مواد معروضة بهذه الطريقة غير الصحية، خصوصا أن مدينة وجدة تعرف ارتفاعا في درجة حرارة صيفها.
تنامي الوعي بالخطر
وإذا كانت الأسباب السابقة كلها تصب في خانة التقليل والحد من ترويج المواد المهربة، فإن عمر حجيرة رئيس الجماعة الحضرية لمدينة وجدة يرى أن هناك سببا آخر دفع بهذه التجارة إلى التراجع والكساد “هناك وعي متنامي بخطر استهلاك مواد مهربة، قد تكون منتهية الصلاحية، وهذا الوعي في الحقيقة يجب تشجيعه وتكريسه، خصوصا بعد ظهور أمراض خطيرة يرجح أن تكون بعض هذه المواد غير الصالحة للاستهلاك سببا فيها”، يؤكد حجيرة قبل أن يكشف أن شركات محلية أيضا تلجأ في بعض الحالات إلى إغراق السوق المحلي ببعض المواد التي تكون صلاحيتها شارفت على الانتهاء.
ودعا حجيرة المواطنين إلى الحذر أثناء اقتنائهم لمواد معروضة في السوق قصد الاستهلاك، ونبه إلى ضرورة الاطلاع على بيانات الصلاحية قبل الاقتناء “تاريخ انتهاء الصلاحية الذي يوضع على المواد الاستهلاكية لم يوضع عبثا، بل يتم ذلك بناء على دراسات علمية دقيقة لذلك وجب احترام البيانات الواردة في هذا الجانب”، يضيف المتحدث نفسه.
مواد تنتعش رغم كل شيء
على الرغم من أن تقرير مرصد مكافحة التهريب أكد أن زيت المائدة القادمة من الجارة الجزائر وصل سعرها إلى مستويات قياسية قارب سعر الزيت المحلي، الأمر الذي أدى إلى اختفائها من السوق، إلا أنها مع اقتراب رمضان غزت السوق من جديد، خصوصا ببني ادرار، بعد تراجع في الأسعار بشكل ملفت للانتباه.
والسجائر هي الأخرى، على الرغم من ارتفاع سعرها خلال الأسابيع الماضية، بنسبة 20 في المائة من قيمتها السابقة، إلا أن الإقبال عليها يظل في المستوى السابق نفسه لأن الفارق في االسعر بينها والسجائر المستوردة يبقى مرتفعا، ما يجعل هذه التجارة الأكثر ربحا لبعض ممتهني التهريب، إلى جانب تجارة المعسل والشيشا، التي يكثر استهلاكها خلال رمضان.