يجب الاعتراف لبنكيران بالشجاعة السياسية لأنه وضع يده وشعبيته وحزبه على المحك، ولم يجرِ حسابات سياسوية أو انتخابية بخصوص قرارات صعبة وغير شعبية مثل قرار إصلاح صندوق التقاعد المدني والعسكري، في الوقت الذي لم يتجرأ من سبقوه إلى رئاسة الحكومة على وضع أيديهم في هذه «العصيدة» التي تهدد بانهيار أنظمة التقاعد.
إن الأمر أشبه بإجراء عملية جراحية معقدة لإنقاذ مريض غير مقتنع بمرضه، أو غير مستعد لتحمل آلام مبضع الطبيب في جسده. هو حتما سيحتج وسيغضب، وربما يضرب أو يسب، لكنه لن يعرف قيمة العلاج حتى يشفى من المرض. الرأي العام عندنا، وخاصة في وسط جيش الموظفين، لم يعتد صدور قرارات كبيرة، ولم يعتد تحمل كلفة الإصلاح عن التضحية من أجل الصالح العام، لكن هؤلاء الموظفين، عماد الطبقة الوسطى في المغرب، في هذا الباب هم معذورون، فلا أحد يؤدي كلفة الإصلاح فلماذا يؤدونها هم بالذات؟
ومع ذلك، لا بد من قراءة النصف الفارغ من كأس هذا القرار الذي سيرفع سن التقاعد إلى 63 سنة، وسيخفض مقدار المعاشات بنسبة 5٪ إلى 7٪, وسيرفع من نسبة المساهمات، وسيكلف الدولة حوالي 42 مليار درهم.
هذا إصلاح جوهري لكنه، من جهة، تأخر كثيرا حتى فقدنا مليارات من احتياطات الصندوق موضوع الإصلاح، ومن جهة أخرى لم يحمل المشروع طابعا شموليا وحلا جذريا لمشكل اسمه التقاعد في المغرب، حيث بقيت الصناديق الأخرى خارج جغرافية الإصلاح، وبقيت الاختلالات الفادحة في قيمة التقاعد بين «أغنياء» الوظيفة العمومية «وفقرائها»، بين القطاع الخاص والقطاع العام. والأكثر مدعاة للقلق أن الهيئات نفسها والمسؤولين أنفسهم والإدارات والعقليات والقوانين التي أوصلت الصندوق إلى الإفلاس، هي نفسها التي ستشرف على الإصلاح، حيث لم تخلق الحكومة وكالة مستقلة أو هيئة جديدة لضمان الحكامة الجيدة لصناديق التقاعد وحسن التصرف في مليارات التقاعد بطريقة آمنة وعقلانية وشفافة، إذ تخرج أموال التقاعد من تحت يد «المضاربات المالية والسياسية» التي تحركها هواجس التحكم في النسيج الاقتصادي، والتي تبحث عن حلول لمشاكلها ومآزقها المالية لدى صناديق التقاعد لأن هذه الأخيرة لا تقدم الحساب لأحد.. «المال السايب يعلم السرقة»
في أحد تصريحاته المستفزة في البرلمان، قال رئيس الحكومة للبرلمانيين ولعموم الشعب: «إذا كان لديكم ملف عن اختلالات إدارة أموال صناديق التقاعد فاتوني به وأنا سأدفعه إلى القضاء».. هذا كلام غير جدي تماما. ليست لدى المواطنين الوسائل والإمكانات والصلاحيات للتحقيق في جرائم كبرى تتصل بإدارة أموال صناديق التقاعد لسنوات طويلة، وأنت، السيد رئيس الحكومة، من لديه النيابة العامة والمجلس الأعلى للحسابات وأرشيف الإدارة، والقدرة على التحقيق وعلى استدعاء كل الأطراف للاستماع إليها، ولأن سياستك بنيت على أساس «عفا الله عما سلف»، فقد استبعدت منذ البداية طريق التحقيق في الأسباب العميقة لما جرى، وركزت على ما تعرضه عليك الإدارة من حلول، دون النبش في الملفات القديمة. إذن، لا توهم الرأي العام بأن مشاكل صناديق التقاعد كلها ولدت بسبب طول عمر الموظفين، والتفاوت الحاصل بين الناشطين والمتقاعدين.. هذا صحيح، لكنه لا يفسر كل الاختلالات التي يعانيها صندوق التقاعد.
الإصلاح له كلفة، والكلفة تتبعها فاتورة جماعية، وفي الأداء كل طرف يجب أن يمر إلى الصندوق، فلا يعقل أن نطلب من المواطنين، وخاصة الضعفاء منهم، في كل مرة، أن يتحملوا لوحدهم دفع فاتورة الإصلاحات المؤلمة، فيما يفلت الآخرون بجلدهم. هكذا جرى إصلاح صندوق المقاصة دون حساب ولا عقاب على مليارات الدراهم التي ذهبت إلى الجيوب الكبيرة، والآن يجري إصلاح صندوق التقاعد دون محاسبة، وغدا ستفتح ملفات أخرى دون افتحاص ودون تقديم حساب.. هذا له اسم واحد «سياسة اللاعقاب».