قضية «مزفتة»

09 فبراير 2016 - 22:00

«فيديو الزفت» لم يعرِّ فقط عورة رئيس جماعة جمعة سحيم، المسؤول عن بناء طريق من «الشوكلاطة»، يمكن تقشيرها بسهولة مثلما يقشر الأطفال برتقالة صغيرة.. شريط الزفت، الذي صوره الشاب عبد الرحمان المكراوي وبعثه إلى يوتيوب، عرى أعطاب القضاء في المغرب، وعرى السياسة الجنائية لوزارة العدل.. إليكم الحكاية من البداية.

في شهر يناير، وجد الشاب عبد الرحمان المكراوي أن الطريق الجديدة في جماعة «جمعة سحيم» طريق مغشوشة، وأن الزفت فوقها مثل البسكويت، وأن الجماعة والشركة المسؤولتان عن أشغال البناء تضحكان على شعب «جمعة ولد سحيم»، ولأنه يملك هاتفا بكاميرا، ولأنه من جيل الأنترنت، فقد صور شريطا يسخر فيه من «طريق الزفت» هذا، ووضعه على قناة يوتيوب دليلا على مساهمة مواطن في كشف الفساد والتبليغ عن جريمة، وتقديم شهادة ودليل مصور على فساد أشغال بناء الطرق، وعوض أن يفتح وزير الداخلية تحقيقا في هذه الفضيحة، باعتباره وصيا على الجماعات المحلية والقروية، وعوض أن يتحرك وكيل الملك بآسفي تلقائيا لإجراء بحث في طريق مغشوشة تهدد سلامة المواطنين، الذي وقع هو العكس تماما.. أقدم رئيس الجماعة، الاستقلالي خالد النويكض، على تقديم شكاية إلى وكيل الملك بآسفي يتهم فيها الشاب عبد الرحمان بالسب والقذف، وفي الحين بعث وكيل الملك بآسفي، عمر الصوفي، الملف إلى الدرك للبحث مع المشتكى به، ولما استمع إليه الدرك أعادوا ملفه إلى وكيل الملك، الذي قرر إعادة تكييف الشكاية، ومتابعة «الظنين» بتهمتي إهانة موظف والسب والقذف، والاعتداء على ممتلكات عامة، وفوق هذا قرر سعادة وكيل الملك متابعة شاب عمره 23 سنة في حالة اعتقال وليس في حالة سراح.

هنا ارتكب وكيل الملك أربع مخالفات للقانون؛ أولاها أنه لم يتقيد بالسياسة الجنائية التي وضعتها وزارة العدل والحريات، والتي توجب على قضاة النيابة العامة الامتناع عن تحريك دعاوى القذف والسب، وأن يتركوا المتضررين يقدمون شكايات مباشرة إلى القضاء حتى لا تتهم الدولة بالاعتداء على حرية الرأي والتعبير. والمخالفة الثانية أن السي الصافي أصبح ملكيا أكثر من الملك، وعوض أن يتقيد بموضوع الشكاية، وهي السب والقذف، أعاد تكييف الجريمة (لا نعرف هل كيفها أم بوقها!)، وأضاف إليها إهانة موظف، والاعتداء على ممتلكات عامة، والحاصل أن الطريق المغشوشة ليست من الممتلكات العامة، بل هي دليل على جريمة أخرى لم يرها سعادته، وهي «تبديد أموال عمومية، وتهديد الصحة والسلامة العامة بإعداد طريق مغشوشة للمارة وللسيارات تهدد سلامتهم». المكراوي لم يقد «طراكس» لإتلاف الطريق حتى يُتهم بالاعتداء على ممتلكات عمومية، هو كان يقشر الطريق مثلما يقشر المحروق جلده، أما المخالفة الثالثة، فهي أن وكيل الملك أصبح طرفا في هذه النازلة، وذلك عندما قرر تصحيح شكاية رئيس الجماعة التي جاء فيها اسم المشتكى به خاطئا تماما، فعوض أن يضع المشتكي اسم عبد الرحمان المكراوي في الشكاية، وضع اسم رشيد المكاوي، وكان الأولى أن يحفظ وكيل الملك الشكاية عوض تحريكها، فليس من وظيفة النيابة العامة ولا القضاء أن يصححا الأخطاء الشكلية في شكايات الأطراف (كما يفعل القاضي السعداوي في الغرفة السابعة بمحكمة عين السبع ضد الصحافيين!). أما رابع خطأ جسيم وقع فيه وكيل الملك فهو متابعة الظنين في حالة اعتقال، وكان الأولى أن يتابعه في حالة سراح، فليس هناك ما يوجب الاعتقال الاحتياطي الذي صار عقوبة بديلة عن عقوبات القانون.

الأغرب في هذا الفيلم «المزفت» أن القاضي هيتوت، الذي عرض عليه عبد الرحمان المكراوي في حالة اعتقال يوم الأربعاء الماضي، رفض طلب محامي المكراوي متابعة المتهم في حالة سراح، لكن عندما قامت القيامة في «الفايسبوك»، واستاء المواطنون من خبر اعتقال الناشط المكراوي، ووصل الخبر إلى الرباط، وتعرض وزير العدل والحريات لحرج شديد، باعتباره رئيسا للنيابة العامة إلى غاية كتابة هذه السطور، تغير كل شيء… تحول وكيل الملك عمر الصوفي، في ظرف 24 ساعة، من «غراق» إلى حقوقي كبير، حيث قدم طلب عقد جلسة طارئة للمحكمة قبل الموعد الذي تقرر في آخر جلسة، وتقدم بطلب متابعة المتهم في حالة سراح، والقاضي هيتوت، الذي سبق له أن رفض طلب الدفاع الإفراج عن الشاب، استجاب لذلك بسرعة يوم أمس في جلسة طارئة! لماذا، إذن، تابع وكيل الملك المكراوي في حالة اعتقال؟ ولماذا قبل القاضي هيتوت طلب السراح بعد أن رفضه قبل خمسة أيام؟ لا يوجد سر في القضية، كل ما هنالك أن الوكيل العام تلقى تقريعا من الوزارة على مخالفته للسياسة الجنائية، بفعل الضغط الشعبي الذي نزل فوق رؤوس الجميع، ولهذا غير رأيه بسرعة البرق، ومعه قاضي الحكم.

كنت أتمنى من القاضيين الجالس والواقف أن يظلا ثابتين على موقفيهما، وأن يدافعا عن رؤيتيهما للملف وللقانون وللتكييف الذي قاما به، وآنذاك سنحترمهما باعتبارهما قاضيين اجتهدا واخطآ، وليسا قاضيين اتخذا بالأمس قرارا خطيرا بسلب حرية مواطن وغيرا رأيهما في اليوم الموالي، وكأن المعتقل قطة وليس بشرا… كان الأولى أن يوقف السيد وزير العدل والحريات وكيل الملك، وأن يعرض ملفه على المجلس الأعلى للقضاء باعتباره قاضيا صار يضع السياسة الجنائية في البلد، ولأنه ظلم شابا ووضعه أسبوعا كاملا في السجن، قبل أن يغير رأيه، وذلك ليعطي المثال لوكلاء ملك ووكلاء عامين يرسلون المواطنين إلى السجن بجرة قلم ودون تفكير ولا تريث، حتى أصبح لدينا أكثر من نصف القابعين وراء أسوار السجن معتقلين احتياطيين.

لنرجع الآن إلى جوهر النازلة، وهي السلطة الكبيرة الموضوعة تحت يد قضاة النيابة العامة في الاعتقال وفي المنع من السفر، وفي فتح الملفات أو حفظها، وفي التكييف وإعادة تكييف الجرائم، وفي عدم احترام السياسة الجنائية لوزارة العدل، وفي النظر بعينين مختلفتين إلى المتقاضين، وغيرها من المشاكل الكبرى التي يعانيها المواطنون كل يوم… كل هذا يحدث والنيابة العامة تحت يد وزير منتخب وحقوقي كان صوته عاليا أيام المعارضة، فماذا سيقع عندما تخرج النيابة العامة من يد الوزير المنتخب، وتذهب إلى جهات أخرى غير منتخبة.

مع كل هذا خرج المگراوي مرفوع الرأس وسجلت حرية التعبير نقطة صغيرة في قضية «مزفتة».

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد من الناس منذ 8 سنوات

المشكل هو انها ما مزفتاش فحتى الزفت مغشوش

medasaj منذ 8 سنوات

السبب هو الباك أدبي بميزة بدون وإجازةمن كلية أُُدخلوها بسباطم النتيجة قضاة ومحامون مكلخين مجلجين بدكاء متواضع في أمريكا المحامات ومهن القضاء لا يلجها إلا الأدمغة خريجو الجامعات المرموقة

مواطن من تطاون منذ 8 سنوات

لا ندري أن كان مقياس ضبط الوضع الاجتماعي ومعاينته من قبل وزارة ااداخلية هو المعمول به في تطبيق القانون الجنائي ؟! افلم تقولوا ان القانون الجنائي تعدل وتم إصدار قانون القضاء الجديد بما يتضمنه من استقلالية القضاء عن السلطتين التنفيذية والتشريعية؟ أين الأمر من كل هذا التغييرات والتطبيلات؟! فلو كانت وزارة العدل او ما ينوب عنها في حقيقة الواقع يحترمان قداسة مكاننهما لما حصل ما حصل من تجاوزات على ظهر القانون الذي لم يعمل به من كل الأطراف. فهنا نلاحظ أن كل الأطراف المتدخلة في هذه القضية ساهمت بدرجة او بأخرى في عدم احترام سلطة القضاء المعنوية والدستورية، فقد حان الوقت على كل طرف ان يتحمل مسؤولياته فيما يحصل من أمور مفهومة وغير مفهومة، ثم ليكن وزير العدل له الجرأة المعنوية على تحمل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية حتى يمنع الطرف الفعلي الذي يتدخل في شؤون القضاء ، او ليصرح بحقائق الأمور التي لم يفهمها الشعب المغربي بعد.

soussi منذ 8 سنوات

السلام عليكم أنا جد مهتم بمقالاتك أستاذ توفيق نظرا للموضوعية والحيادية سؤالي لك لماذا لا تتناول موضوع حول الجامعة الملكية لكرة القدم من خلال الأموال التي تصرفها على كرة القدم والرواتب التي تعطى للمدربين الخيالية ما إذا قارناها برواتب الوزراء والبرلمانيين كيف يعقل أن راتب مدرب المنتخب يفوق راتب رئيس الحكومة بأضعاف مضاعفة فالأول يسير فريق كرة القدم وهي مجرد لعبة لا تغني ولا تسمن من جوع وسلبياتها أكثر من إيجابياتها (الشغب والعنف واهدار المال العام...) والثاني يسير دوالب حكم ومؤسسات دولة... مغرب التناقضات هذا هو عنوان المقال

bihi منذ 8 سنوات

لنكن واضحين: هذه القضية وغيرها تبين بأن القانون لايسري على الحميع بنفس الشكل وبالعدل والانصاف اللازمين. المشكل الذي أثاره عبد الرحمان مشكل لايمس فقط برئيس الجماعة بجمة اسحيم ولكن بسمعة المغرب ويعرضنا للمهزلة. هنا أخطأ ت المحكمة ولم تحاول انصاف بلد و شعب وملك تتعرض ممتلكاتهم وأموالهم للنهب من قبل عديمي الضمائر وقليلي الوطنية. إنهم يسيؤون للوطن وهم بهذه الصفة خونة ومكانهم السجن. لقد اصبحت مظاهر النهب مثل ماحصل لهده الطريق يعرض المغرب لمهزلة دولية عبر الفايسبوك وتويتر وواتساب....

حقوق دولي منذ 8 سنوات

مقال رائع و في الصميم،ا المرجوا من وزير العدال ان يتخذ اللازم ضد هؤولاء من الجناة " وكيل الملك و القاضي" لانه حيوانات مفترسة و ما خفي كان اعظم لم يتعرض له المواطن من سوء استغلال القضاء الذي يجب ان يكون حكما محايدا لا جلادا

التالي