خوف السلطة وسلطة الخوف

04 مارس 2016 - 22:00

الخوف نوعان؛ الأول صحي، ويدفع الإنسان إلى الاحتياط أكثر تجاه المخاطر لتأمين سلامته (الخوف من حوادث السير هو الذي يدفع السائق إلى احترام قانون السلامة في الطريق مثلا)، أما النوع الثاني من الخوف فهو سلبي، وحتى مرضي، يجعل الإنسان يسكت عن الخطأ أو الظلم أو الفساد أو الاستبداد، خوفا على السلامة الشخصية أو المصالح أو الامتيازات التي بحوزته. هذا النوع من الخوف لا يظهر دائما بالعين المجردة، بل يختبئ تحت غطاء التبريرات السياسية والنفسية والاجتماعية التي يقدمها «الجبان للهروب من قول الحقيقة»، لهذا قال مرة المثقف الفلسطيني الأمريكي الكبير إدوارد سعيد، في محاضرة له على إذاعة bbc: «وظيفة المثقف اليوم أن يقول الحقيقة للسلطة، وأن يتجاوز خوفه وطمعه وتردده أمامها، أكانت سلطة سياسية أو مالية أو اجتماعية أو دينية».
كم من مغربي اليوم، وسط النخبة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية، يقول الحقيقة للسلطة، ويتكلم بلسان حي لا خشب في لغته، ولا نفاق في نبرته، ولا تبرير في متنه؟ لا أعرف عدد هذه الأغلبية الصامتة بالضبط، لكن أظن أن الأغلبية الساحقة من النخب تختار أن تبلع لسانها أمام مختلف السُلط، وتختار الخوف عقيدة سياسية لها. هناك استثناءات، لكن القاعدة تبقى قاعدة، وهي تتسع اليوم أكثر وسط النخب، وتضيق أكثر لدى الشباب الذي أصبح يعبر عن آرائه بلا تحفظ، ودون حسابات ضيقة في عالم التواصل الاجتماعي على الشبكة السحرية «النيت».
يحكي الأمير مولاي هشام، في «مذكرات أمير منبوذ»، عن درجة الخوف التي كانت تنتاب المحيطين بالملك الراحل الحسن الثاني، وعن المدى الذي وصل إليه التملق من بطانة الحاكم، فيقول: «كان الحسن الثاني يحب مشاهدة الأفلام في جو عائلي بالقصر الملكي بالرباط، وفي إحدى المرات، بينما كان عامل السينما يركب الأجهزة لإطلاق العرض في صالة السينما بالقصر الملكي بالرباط، سأل الملك الحسن الثاني: ‘‘ما هو عنوان الفيلم الذي سنشاهده هذا المساء؟’’، فرد الموظف البسيط بدون تردد: ‘‘عنوان الفيلم يا سيدي هو الرصاصة الأخيرة من نصيبي’’. بعدما انطلق العرض -يقول مولاي هشام- قرأنا جميعا عنوانا آخر في بداية الشريط السينمائي وكان هو: ‘‘الرصاصة الأخيرة من نصيبك’’». لم يجرؤ العامل البسيط على الإفصاح عن عنوان فيلم أمريكي أمام سيده، وخشي غضب مولاه إن ذكر أمامه أن العنوان الحقيقي للفيلم هو «الرصاصة الأخيرة من نصيبك». ضحك الجميع من خوف الموظف لكن الملك الراحل استحسن هذه اللباقة من أحد رعاياه، وهي في الحقيقة ثقافة الخوف والاستعداد لتغيير الواقع لكي يبقى السيد مرتاحا والملك مطمئنا والسلطة راضية.
هذه القصة، على طرافتها، تكشف الجو العام الذي كان سائدا في البيت الأول للحكم في المملكة. حكى لي المستشار الملكي الراحل، عبد الهادي بوطالب، أن المحيطين بالملك الراحل لم يكن جلهم قادرا على قول رأيه بصراحة في الأوضاع القائمة أمام الملك، وأولهم إدريس البصري الذي كان أكبر متملق في مملكة الحسن الثاني، حتى سادت أجواء في البلاط تقول كل صباح: «إذا كان لديك خبر سيئ فلا تقله لسيدنا لأن مزاجه اليوم رائق، ولا يجوز أن تفسد عليه أجواء الانتعاش، وإذا كان لديك خبر جيد فلا تقله اليوم لأن مزاج سيدنا سيئ، ولا يحتمل منك قول أي شيء»، وفي النهاية أصبح السكوت هو الحل. النتيجة كانت، إذن، هي عزلة الملك، وهذا بالضبط ما كان يشعر به الحسن الثاني، الذي كان يحيط به كثيرون في القصر وخارج القصر.
القريبون كانوا يخافون، وأغلب المبعدين كانوا مرعوبين، وحده الشعب ومصالحه كانا يدفعان ثمن هذا الخوف غاليا.
في العصور الغابرة كان الناس يلجؤون إلى تقنية تقليدية لقول ما يغضب الحكام.. كانوا يطلبون الأمان قبل أن يفتحوا أفواههم، وبعد الحصول عليه، يقولون ما يعتقدونه لصاحب الأمر والنهي، ومن جهتهم، كان السلاطين وأمراء المؤمنين وحكام الولايات يتخفون في لباس تنكري لينزلوا إلى الشعب ليسمعوا الحقيقة التي لا تصل إلى القصور، ولا تخترق أسوار الحصون، لكن اليوم حتى هذه الوسائل التقليدية لم تعد تخترق جدار الصمت في جل قصور الحكم في العالم الثالث، وأصبحت الحقائق محجوبة عن الحاكم، لا صحافة تصله، ولا استطلاعات الرأي تقترب منه، ولا وجهات نظر المعارضين تعترض طريقه، ولا كلام المثقفين والعلماء والسياسيين من غير أهل البلاط يوضع أمامه، فصار القرار قرار من يصل أولا إلى أذن الحاكم، والسلطة سلطة من يستأثر بالقرب منه، والتأثير تأثير من يوجد في الدائرة الضيقة… فن الحكم هو فن الاستماع، وفن تعدد الأصوات في رحاب الســلطة. قال أوســــــــكار وايلد (1900/Oscar Wild 1854) الشاعر والمسرحي البريطاني الشهير مرة: «عندما أشعر بأن كل المحيطين بي لديهم الرأي نفسه الذي أعتقده أكون متأكدا أنني على خطأ».

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

من يعلق الجرس منذ 7 سنوات

ان سامحت باظافة ، فكثيرا مايلجاء الاطفال الصغار لحيلة تسخين رفيقهم المندفع وهو من يتقدم بالطلب او الاعتراض او حتى البسالة بمففهومنا والنتيجة الايجابية للجميع والاخرى ينفرد بها دائما لوحده. وهنا قال المرحوم بها : "من يعلق الجرس"

الحقيقة المغتالة منذ 7 سنوات

قول صاحب المقال " تضيق أكثر لدى الشباب الذي أصبح يعبر عن آرائه بلا تحفظ، ودون حسابات ضيقة في عالم التواصل الاجتماعي على الشبكة السحرية «النيت » " شباب اليوم يوجد وراء شاشة الحاسب ليس هناك من يراقبه ولا يشعر بالخوف والحرج ، فهم " يناضلون " من وراء حواسبهم وهو نضال افتراضي وليس واقعي كما يجب ان يكون . لا اعتقد ان السيد بوعشرين يعرف حجم سنوات الرصاص وليس له أن يتخيل تلك المرحلة من تاريخ المغرب لم يكن الامر يتعلق فقط بصراع على السلطة كما يدعي بعض المتاخرين بل الامر كان يتعلق بكلمة الحقيقة والتي كان يجب ان تقال في وضح النهار وليس من وراء حاسوب والجميع كان يعرف كلفة كلمة الحقيقة التي كانت تدخل الى ردهات سجون لا يعرف السيد بوعشرين قتامتها لأنها لم تكن سجون اليوم هذه الحقيقة هي التي كانت تبني المغرب الذي وصلنا اليه ، ومن هذه الحقيقة حصلت خلخلة لواقع سلطوي مفرط وحصل تسرب للعديد من الحقوق . لهذا من يلوون عنق الحقيقة هم من نراهم في الواجهة السياسية والاعلامية والحقوقية ... والذين كانوا ولا زال بعضهم يحاول قول الحقيقة مرفوضون لأن الحقيقة صعبة ولا يزال ليس هناك من يتوفر له الاستعداد لقبول الحقيقة ، لهذا انصرف الشباب الى قول الحقيقة من وراء جدار ، وللأسف الحقيقة على قلتها ونقاوتها لم تصمد . بعض الاعلاميين الذين يصارعون من اجل كلمة الحقيقة تقف في وجههم متاريس القوانين والمنع الحقيقي والافتراضي لهذا يتعجب المغاربة من كلام وزير الاتصال عندما يتحدث لغة البوليميك السياسي نحو سلطة رابعة يراد نزع لسانها في دولة تحتاج الى الحقيقة من اجل البناء الديمقراطي ، في المقابل اليوم يتم التفنن في صباغة الحقيقة بجميع الالوان لهذا كثيرا ما يتفنن السياسيون واعلاميون في الكلام بعيدا عن قول الحقيقة ، وفي مخادعة المجتمع والراي العام ... وللأسف اصبح المجتمع يقبل بالكذب والتملق والشعبوية التي اصبحت احد مظاهر الرداءة السياسية والتي لها انعكاسات خطيرة على البلد ... لا يريد البعض الاعتراف بحقيقة المجهود الذي بذلته بعض النخب بمستقبلها وبحياتها ، وهذا البعض يعمل يوميا على تشويهه بمحاولة تقديم صورة عن " نقاوتها ونزاهتها " وباحقيتها في سلطة بلباس ديني ...

Quelqu'un منذ 7 سنوات

عن أي أسباب نزول تتحدث؟ ليس بالضرورة أن يكون للنص أسباب نزول..هو نص عام يخص كل من يهمه الأمر و كل ذي فهم لبيب لا يحتاج لحدث موجة كي يعلق عليه..أو يجعله سبب نزول

aziz madrane منذ 7 سنوات

تبارك الله على سي بوعشرين كثيرا ما نستفيد معك عند قراءة مقالاتك . قول الحقيقة أو الموضوعية نادرة في وسط الصحافيين والمثقفين فما بالك بالسياسيين الذين يعتبرون الكذب والنفاق وسائل ضرورية في السياسة إلا من رحم ربك بل السياسي الذي يقول الحقيقة دائما وفي أي ظرف يعتبره الآخرون سياسي سيء أو فاشل.

حسن منذ 7 سنوات

المتملقون ان هده الفئة من الناس موجودة في جميع الادارات و يصلون الى ماربهم عن طريق التملق اما الانسان الدي لا يرضى و رغم كفائته العالية فيبق بعيدا عن صنع القرار.

الورزازي منذ 7 سنوات

لا أعتقد أن الحاكم في حاجة إلى من يخبره الحقيقة.. الجهل في عصرنا الحالي اختيار، كل شيء واضح.. إن كان لأحد من المثقفين أو عموم الناس أن يجهر بالحقيقة في ظل السلطة المستبدة، فلن تكون سوى هذه العبارة : الحاكم هو الحل، الحاكم هو المشكلة

ايت ميلك منذ 7 سنوات

اسباب النزول او ظروف النص من فضلك لان الموضوع عام ويمكن ربطه باي موضوع ثاني مما قد يعرضه للفهم الخاطئ وشكرا