هل وقعت في عهد الحسن الثاني حوادث لاعتراض موكبه طلبا لمساعدة أو شكوى من ظلم؟
كثيرة هي الحوادث التي وقعت في زمن الحسن الثاني مثلا، تشبه حالات الاعتراض المتتالي للموكب الملكي، أو انتهاز أي فرصة طلبا لمساعدة أو تسولا لهبة أو تسليما لشكوى من مظلمة. لكن لم يكن في زمن الحسن الثاني الطرق الجديدة لنشر المعلومات على نطاق واسع، ولذلك، غالبا لم يكن الناس يعرفون بوجود حالات للارتماء كما أسميه أنا، على المواكب الملكية، أو ما إن كانت تلك العمليات تخلص إلى نتائج في صالح مرتكب عملية الاعتراض. بيد أنني مقتنع بأن حالات الشكوى كانت كثيرة، لكن الأعطيات سواء أكانت عبارة عن إكراميات مباشرة أو على شكل مأذونيات، كانت تعتريها تدخلات وسطاء كثر، ولذلك كان بإمكان مسؤولين كبار في الدولة آنذاك أن يمنحوك مأذونية نقل دون أن ترى الملك أو تلتقيه أو تعترض موكبه. ومثل هذه الوساطات، قلّت في الوقت الحالي حتى إنها كادت تندثر، لأن الملك محمد السادس قرر أن يكون طرفا مباشرا في أي عملية منح لإكرامية أو مأذوينة، ولن يفاجأ المرء إن اطلع على عدد المأذونيات التي منحت منذ 1999 لكثير من المواطنين ليفهم كيف أٌغرقت السوق، بينما في عهد الحسن الثاني، وبالرغم من أن منح الإكراميات والمأذونيات، كان طقسا سلطانيا إلا أنه لم يكن بهذا الانتشار. لقد حدث التحول الكبير في هذه الظاهرة يوم أبعد الملك الحالي عن نفسه الوساطات بينه وبين رعاياه.
لكن ألم يكن القصر يستعمل هذه الطقوس كوسائل ترغيب للرعية؟
بلى، لأن الخطاب السلطاني مؤسس على كيفية تحويل السلطان إلى كيان محدث للمعجزات (thaumaturge)، وليس في اعتقادي أن النظام الملكي في أي بلد كيفما كان، يمكنه أن يتخلص ببساطة من هذه الطقوس فجأة باعتبارها أشياء منتمية إلى زمن متجاوز. إن النظام الملكي في المغرب أسس لنظام الأعطيات وكأنها جزء من السحر الذي يحيط بكرسي العرش. لقد مارسها النظام الملكي طويلا في فرنسا، وكانت الفكرة أن أي شخص يقترب من الملك سيحاط ببركاته، وقد كرس النظام الملكي بالمغرب هذا الأمر، لاسيما بالاستدلال بالنسب الشريف للسلاطين أو الملوك العلويين. وبفضل هذا الغرس الإيديولوجي لطهارة النسب، فقد تمكن الملوك العلويون من جعل طلبات الرعية نوعا من طلب البركة. وككل بركة، فإن النتيجة تكون فعالة، لأن الفقير يتحول إلى غني، والمريض يشفى بفضل العناية التي أمر بها الملك لصالحه.. هنالك لعب على هذا الوتر الحساس في مجتمع تقليدي في معتقداته. وقد فعلها الحسن الثاني بشكل مستمر، وربما كان لهذا تأثير في غرس هذه الفكرة في العقول لدى الملكيات المعاصرة. إن ترغيب الرعية في السلطان أمر لا محيد عنه في تقنيات التواصل والسيطرة، وإذا خلت الأجواء من أي تهديد جدي لسلامة الملك، فإن كل الطلبات لا ترد.
وهل هناك فرق بين طبيعة الأشخاص الذين كانوا يحصلون على «بركات» الملك سواء في عهد الحسن الثاني وفي عهد محمد السادس؟
في زمن الحسن الثاني، كانت الإكراميات والمأذونيات أو العطايا بشكل عام تقدم بشكل محصور على نوع من الأشخاص، وربما كان حصول المقهورين أو المظلومين من المواطنين العاديين على مأذونيات أو عطايا قليلا، أو في مستويات دنيا. حينها، أي في عهد الحسن الثاني، كانت النخبة تستفيد من نظام العطايا الملكية، ويتضح ذلك من خلال تفحص قوائم الأشخاص الذين كانوا يستفيدون من الإكراميات أو المأذونيات، سواء رخص نقل أو أراض أو منازل أو أي شيء آخر. كانت النخبة حينها تلهث وراء بركة السلطان، وهو كان يوزعها بكل سخاء مقابل الولاء والإخلاص، لأن هذه هي طبيعة النظام السياسي المغربي منذ الاستقلال حيث لا شيء يُقدم بالمجان. في النهاية، كانت النخبة تنتفع بشكل كبير من عطايا الملك الحسن الثاني، وفي بعض المرات، يمنح الملك سلطة لمسؤولين آخرين قريبين منه لمنح عطايا باسمه. ولذلك ليس غريبا أن تجد مسؤولين سابقين يمتلكون مأذونيات نقل أو استغلال أو عقارات عبارة عن هبات من لدن الملك. كانت فترة الحسن الثاني أفضل الأيام بالنسبة إلى تلك النخبة الانتهازية. لكن الحال سيتغير تدريجيا مع الملك محمد السادس، لأن طريقته في منح العطايا حولت وجهة المستفيدين من النخبة إلى المواطنين البسطاء. إذ أصبح معظم المنتفعين من العطايا الملكية مجرد أشخاص عاديين صادفوا الملك في مكان ما. ومع ذلك، مازالت بعض النخب تستفيد من عطايا الملك الحالي، إذ لا يمكن أن تهدم نظاما كاملا ضربة واحدة، وسيظهر لك ذلك في بعض العطايا الصغيرة كأكباش العيد على سبيل المثال. لكن الانتفاع الضخم من العطايا أصبح نادرا، حتى وإن كان البعض مازال يعتقد أن بإمكانه الحصول على بركات الملك مثلما فعل برلماني قبل عامين عندما رمى برسالة إلى الملك. كان ذلك مشهدا سخيفا عن حق.
ألا يمكن أن نتصور يوما تنتهي فيه مثل هذه الطقوس؟
لا أعتقد ذلك، وحتى إن تحقق ذلك في يوم ما، فإني لا أراه قريبا.. إن وسائل الاتصال الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي بمختلف تشعباتها تمنح زخما متزايدا لبناء شعبية ملكية قائمة على القرب من الرعية. لقد جرت أدلجة سريعة وربما دون تخطيط مسبق، للمجتمع بالكامل حول ما يمكن أن يحصل عليه أي شخص من طرف الملك. لقد أصبح تفكير الكثير من الناس لاسيما المحتاجين منهم، هو تحين الفرص للاقتراب من الملك، وقد ظهرت بسبب ذلك مجموعات لترصد المواكب الملكية، ومجموعات للاتجار في المأذونيات، وقد حوربت هذه المجموعات بعض الشيء، لكن المبدأ ما يزال صامدا: إن الملك الحالي مستمر في منح بركاته لرعيته، والأهم هو ألا يتعرض أي شخص حاول الاقتراب منه إلى عقاب. سنصبح إذا استمر الحال على هذه الشاكلة إزاء مشكلة حقيقية لأن خريطة تجول الملك وبرنامجه باتا أشياء معروفة وتُتداول على الفايسبوك، ثم المقاهي. وأصبحت صور الشبان الذين ينجحون في التقاط صورة مع الملك تتزايد أكثر فأكثر، لأن الملك قرر ألا يكون هنالك حاجز بينه وبين رعيته في قضية البركات كيفما كانت، سواء صورة أو معونة نقدية أو مأذونية. لم يكن الحسن الثاني يتنقل في الدروب ليوزع الأموال على حارسي السيارات، لكن محمد السادس يفعل ذلك. لقد أصبح طقس العطايا تحت ضغط كبير من لدن اتجاهات الرأي العام، حتى إن التفكير في وجود الملك في مكان عام من دون أن يتقدم إليه أحد طلبا لمساعدة هو نوع من الخيال. إننا الآن في منعطف قد يشكل بعض الخطورة، حيث الملك في كل مكان، وحيث يعرف الناس جميعا أين يوجد، وحيث يمكنهم الوصول إليه بنسبة عالية، وحيث أي مشكلة تطرأ لهم وهم بصدد فعل ذلك، لن تعرضهم لأي عقاب. إنها بركات جديدة لم يكن يعرفها عهد الحسن الثاني.
* مؤرخ وباحث في معهد الدراسات الإفريقية