-->

دول سقطت وأخرى تحتضر

29 مارس 2016 - 22:00

كل يوم تفقد الدولة جزءا من هيمنتها، قطعة من سلطتها، شيئا من تأثيرها، مساحة من سطوتها، على المجتمع وعلى الفرد.
قبضة الدولة ترتخي كل ساعة على الاقتصاد والثقافة والإعلام والأنترنت وحركة البشر والرساميل والأفكار والصور والرموز ونظام القيم واتجاهات الرأي وسلوكيات الاقتراع… وكل هذا لأن الشركة تتقدم والدولة تتراجع، لأن العولمة تزحف والوطنية تنحسر، لأن الحدود تسقط والمعابر تفتح، لأن الفرد يزداد قوة والجماعة تزداد ضعفا.
لو عاش كارل ماركس إلى اليوم لسقط مغشيا عليه وهو يرى أن الدولة التي تنبأ بنهايتها ودخولها إلى متحف التاريخ تتراجع، لكن لأسباب أخرى غير تلك التي نظر لها، أي أن الدولة تضعف ليس بسلاح الشيوعية بل بأسلحة الرأسمالية نفسها التي أطلقت للسوق العنان، وللشركة المبادرة، وللفرد الحرية، حتى أصبح الشعار هو: «دولة أقل وحرية أكبر».
الدول الذكية تعرف هذه الحقيقة، وتتجه إلى أن تتصالح مع شعبها وعصرها، وتحاول أن تملأ الفراغ، وأن تتقن استعمال أدوات السلطة التي مازالت بيدها، والتي لا يستطيع المجتمع أن يدفع بها إلى القطاع الخاص (مثل الأمن والجيش والقضاء والدبلوماسية وسلطة الضبط la régulation، ومنها وضع دفاتر التحملات للشركات التي تدبر المرافق العامة، ومراقبة جودة الخدمات والمنتوجات، وحماية الأطراف الضعيفة في المجتمع، وتنظيم حركة السير على طريق اكتساب الثروة والجاه والتأثير)… أما الدول المتخلفة فتعاند الحقائق، وتستعمل ما بقي عندها من قوة تقليدية لفرض سطوتها على المجتمعات والأفراد، فتنتج مزيدا من سخط الناس، ومزيدا من قمع الأفراد، ومزيدا من التخلف والسلطوية. كل يوم تحفر الدول العربية والمغاربية والإفريقية خنادق شاسعة بينها وبين شعوبها عن طريق خلط السلطة بالثروة، والسياسة بالأمن، والانتخابات بالتزوير، والدعاية بالإعلام (انظروا كم دولة صارت فاشلة في العالم العربي وإفريقيا: الصومال والعراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان وجنوب السودان ومالي، وفي الطريق إلى إعلان الفشل هناك الجزائر ومصر وموريتانيا إذا لم تصلح هذه الدول من أحوالها). ليست فقط الأنظمة السلطوية هي التي تنهار في هذه البلدان، بل الدولة كلها تبددت، وأصبحت المليشيات والقبائل والعشائر والتنظيمات الإرهابية من يحكم الجغرافيا ومعها الاقتصاد الأسود، من تهريب البضائع، إلى غسل الأموال، إلى الاتجار في البشر، إلى زراعة المخدرات، إلى الاستثمار في عائدات القرصنة وخطف الأجانب وتلقي الفدية، والاتجار في السلاح.
لم تعد الدول المتخلفة في إفريقيا والعالم العربي أمام خيارين تقليديين، الدمقرطة أو السلطوية، كما كان الأمر في السابق حيث كل نموذج يجد له حليفا في الشرق أو الغرب، أصبحت الدولة اليوم أمام خيارين مختلفين تماما، إما الدمقرطة أو الانهيار، إما تقوية شرعيتها السياسية أو الزوال، إما توسيع المشاركة وإقامة حد أدنى من المؤسسات، أو انفراط عقد الاجتماع البشري، وحلول الفوضى غير الخلاقة، وحرب الجميع ضد الجميع.
 منذ ربع قرن لاح نموذج فشل الدولة في الصومال ولم ينتبه إليه إلا القليلون، حيث اعتبر هذا البلد، العضو في جامعة الدول العربية، مجرد استثناء. الآن نحن أمام انهيار خمسة بلدان عربية وخمسة أخرى في الطريق للوصول إلى محطة الدولة الفاشلة (تصل الدولة إلى وضعية الفشل الكلي أو الجزئي عندما تفقد فيها السلطة حق احتكار استعمال أدوات العنف المشروع، ومراقبة الحدود، وتقديم حد أدنى من الخدمات للمواطنين، والعجز عن الاضطلاع بالمسؤوليات الدولية الملقاة على عاتقها). 
قبل أسابيع كان تنظيم داعش ليبيا يريد أن يقضم قطعة من الأرض التونسية في بنغردان لإقامة ولاية جديدة للبغدادي في بلاد الزيتون بواسطة استعمال السلاح، وتجنيد الخلايا السلفية الجهادية التي انتعشت مع ارتخاء مفاصل الدولة بعد ثورة الياسمين. كان هذا اختبارا لقوة الدولة التونسية، ومدى قدرتها على مراقبة حدودها، واحتكار استعمال السلاح فوق أرضها، لكن الاختبار الأقوى كان للشعب التونسي ولسكان بنغردان، فيما إذا كانوا مازالوا متشبثين بالدولة التونسية إلى اليوم، أم إنهم يئسوا منها بفعل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها مشاكل إعادة ترتيب أوضاع البيت الداخلي للنظام التونسي. هذا النموذج في الاختبارات ستتعرض له دول وشعوب أخرى مغاربية وعربية وشرق-أوسطية في الأشهر والسنوات المقبلة، سواء على يد داعش أو القاعدة أو غيرهما من التنظيمات المسلحة التي باتت جاهزة لأن تحل محل الدولة الفاشلة، وهذه التنظيمات تتغذى على ضعف الشرعية السياسية في الدولة العربية، وندرة شرعية الإنجاز فيها، ووفرة الأزمات داخلها، وقنوط ويئس الناس من الأمل في الغد، والجميع يردد شعار: «الطبيعة تخشى الفراغ».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

ibram منذ 8 سنوات

التطرف الدينى سيضعف معظم الدول العريسة

عبد المجيد العماري منذ 8 سنوات

الصحراء مغربية،والشعبان المغربي والجزائري شعب واحد،وإدا كانت الجزائر تتجه نحو الفشل فإن المغرب حاليا لا يستطيع توفير الحد الأدنى من الخدمات لكل المواطنين،وإدا تحلينا ببعض الموضوعية فإن ثروة حكامنا الحقيقيين وعائلتهم ومحيطهم أعلى بكثير من نظرائهم في الجزائر مع العلم أن الفقر في المغرب أكثر حدة.وهناك قاعدة دهبية علينا حفظها عن ظهر قلب وهي:فشل الجزائر هو فشل للمغرب وفشل المغرب هو فشل للجزائر.

مواطن من تطاون منذ 8 سنوات

الدول اليوم تحتضر بسبب عاملين رئيسيين : العامل الأول يرتبط بوجود القابلية لدى الدول الضعيفة بأن تنهار وتسقط نتيجة هوانها في مختلف جوانب الحياة ، فعندما تنهار المناعة الداخلية للجسم فسيموت حتما حيث ستهاجمه الفيروسات وينتهي أجله ، هكذا يكون حال الدول أيضا التي تنعدم فيها المؤسسات القوية سواء الإدارية منها أو السياسية او الاقتصادية او الثقافية او الإعلامية ، فهذا ما حدث فعلا في سوريا واليمن. أما العامل الثاني فله صلة بالدول القوية التي يسهل عليها ان تخترق جسم الأنظمة الضعيفة التي تجد نفسها أمام وابل من الاختراقات المتعددة التي لا تنفك منها حتى يصير مالها في أيدي هذه الدول الباطشة التي تمنعها حتى من تقويم واصلاح ذاتها .

moroco منذ 8 سنوات

يظهر والله اعلم ان مداخل ثلاث ستكون وراء انهيار السلطة او الدولة في قطر ما: ١ فشل منظومة التربية والتعليم في تأطير وتعليم الناشئة منظومة القيم ، قيم المواطنة الحقة وقيم الديمقراطية، وقيم الأخلاق والمثل العليا. ٢- غياب النموذج / القدوة المجسد لهذه القيم واستبداله بنموذج اخر ففي مجتمعنا بتنا نقدس كل من يملك سلطة المال وان كان هذا مشبوها وبتنا أشد إعجابا بالفتوات من عتاة المجرمين امام عجز العدل والقضاء اللذين تنازلت لسلطة المال والنفوذ . ٣- الرغبة القوية في تحقيق المكاسب دون اداء الواجبات وفي وقت قياسي والغريب ان الكل بات ينفر من العمل الذي لن يحقق الغنى الفوري فما الحل يا توفيق؟؟؟؟؟

المعلم منذ 8 سنوات

حقائق مخوفة ، هي ناقوس إنذار للحكام العرب حتى يتداركوا أوضاع بلدانهم، فالخطر صار يحيط بها من كل جانب. من الأشياء التي افتقدناها والتي كانت تبعث الحماس في أنفسنا وتزرع حب الوطن في قلوبنا تلك الأناشيد الوطنية التي كنا نتغنى بها في المدارس وكذلك الأغاني الوطنية التي كانت تبث من خلال الإذاعة والتلفزة لاسيما في الأعياد الوطنية.

التالي