عاش واقفا ومات واقفا 

18 أبريل 2016 - 22:00

مات أحد أشهر أغنياء المغرب، لكن كتاب حياته سيكون أطول عمرا منه، وسيرته ستبقى واحدة من أكثر القصص إلهاما للجيل القادم.. قصة راعي الغنم الفقير القادم من زمن القحط والاستعمار في الشياظمة، والذي انتهى إلى حجز مقعد له على قائمة فوربيس إلى جانب أغنياء العالم.
رجل بنى نفسه بنفسه، ولم يتسلح باسم عائلة مشهورة، ولا بقرب من السلطة، ولا بشهادة جامعية، ولا بمظلة حزب أو شخصية نافذة، لكي يصل إلى ما انتهى إليه… رجل بنى مجموعة اقتصادية عملاقة ووراءها ثروة كبيرة بالعرق والجد والذكاء الفطري، والصمود والثقة في الله الذي يعطي بلا حدود وينزع بلا قيود.
ميلود الشعبي ليس أول شخصية عصامية تبني ثروة من لا شيء، وليس قصة النجاح الوحيدة في المغرب والعالم العربي، لكنه، بالقطع، نموذج متفرد في خانة رجال الأعمال الشجعان الذين لم تمنعهم جيوبهم من فتح أفواههم، ولا وقفت ثرواتهم أمام صراحتهم، ولا نجحت مصالحهم في زرع الخوف في قلوبهم.. معه سقط الشعار الذي يقول: «الرأسمال جبان»، وإليكم واحدة من القصص الأخيرة التي كلفت الملياردير المغربي الكثير لكنه لم يندم على شيء مما تركه فيها من جلد حي:
في 2008، أعطى استجوابا ناريا لمجلة «لوجورنال»، وانتهى فيه بإعطاء نصيحة للقائمين على تدبير ثروة القصر بضرورة أخذ مسافة معقولة إزاء «البزنس» ومشاكله وتعقيداته مخافة الخلط بين الثروة والسلطة، بين الاقتصاد والحكم. وبعفويته وصراحته قال ما كان يفكر فيه الكثيرون ولا يستطيعون فتح أفواههم به.
ما إن خرج كلام الشعبي أسود فوق أبيض حتى زلزلت الأرض تحت قدمي الملياردير المتمرد، وتطوع «أصحاب الحسنات» فزادوا من تأويل كلام الشعبي ليصير مبررا وحجة لإطلاق النار عليه وإعدامه في باب الحد… وقف الشعبي وسط العاصفة ثابتا محتسبا عارفا بما ينتظره، فقد علمته الحياة وخلافاته مع الحسن الثاني وإدريس البصري أن عصا السلطة عندما تنزل فهي تضرب بقوة.
نصحه كثيرون بتكذيب ما جاء في المجلة تحت مبرر أن كلامه لم ينقل بدقة، كما يفعل السياسيون المناورون عادة، فرفض وقال: «لا أستطيع أن أهرب من كلمة الحق، وألقي بالمشاكل على ظهر صحافي قام بعمله، وحتى ولو نقل عني ما لم أقله بدقة فلا أعرض شخصا للخطر وأرجع إلى الوراء»، ثم جاءه إدريس جطو، الوزير الأول السابق، يعرض نقل رسالة استعطاف منه إلى القصر يشرح فيها الشعبي حقيقة موقفه، ويعتذر عما بدر منه، فرد الشعبي على جطو، وقد كانت له مكانة خاصة في قلبه (أنقل هنا من حديث طويل للشعبي مع كاتب هذه السطور): «قلت لجطو -يحكي الشعبي رحمه الله- إذا كتبت رسالة أشرح فيها المقصود فلن أضيف إليها أكثر مما قلته في الاستجواب مع المجلة. أنا رجل يعرف قيمة الاستقرار في بلده، ويعرف دور الملكية في هذا الاستقرار، وقد كنت من بين المغاربة الذين اعتقلوا زمن الاستعمار وعذبوا لأنهم ناضلوا من أجل عودة محمد الخامس من منفاه، ورفضوا إزاحته عن عرش أسلافه، فأنا واحد كذلك ممن ساهموا في بناء اقتصاد المغرب، وممن وظفوا الآلاف من الشباب في المملكة وخارجها، وأنا من القلائل الذين صنعوا ثرواتهم بعيدا عن رعاية السلطة، بل في كثير من الأحيان ضدا عليها»، ويواصل الشعبي المرافعة دفاعا عن نفسه قائلا: «أما حكاية الاعتذار، فإنها خارج الموضوع لأني عشت في كنف ثلاثة ملوك، وأعرف حدود الاحترام الواجب لهم، وأعرف الحاجة إلى قول الحقيقة لهم في الأوقات الصعبة حين يلوذ الآخرون بالصمت»، وقال لجطو، في ما رواه لي الشعبي في جلسات حوار امتدت إلى ساعات طويلة: «السي إدريس، لماذا نتعب ونكد ونسهر من أجل تنمية الثروة وكسب المال؟ أليس من أجل أن نحفظ كرامتنا ونبقي رؤوسنا مرفوعة؟ فكيف يصير المال والثروة والشركات مدعاة لكي نطأطئ رؤوسنا؟ الله جل جلاله هو الذي يغني وهو الذي يفقر، وإذا كتب الله لي أن أموت كما ولدت فقيرا معوزا فلا اعتراض لي على ذلك». 
تعرض الشعبي بعد الذي جرى لعقاب كبير، بدأ بمنع التراخيص الإدارية عن مشاريعه، وانتهى بزج اسمه في قضية «الودغيري وبوفتاس»، فوجد نفسه، وقد بلغ الثمانين، أمام قاضي التحقيق سرحان يخضع للعبة سين جيم… شعر الشعبي بالإهانة، وغضب من سلطة أوقفت عشرات المشاريع المدرة للدخل والضريبة والشغل، وحرمت آلاف الشباب من العمل وكسب الرزق فقط لتنتقم من شخص واحد، ومن جملة قيلت هنا وتصريح قيل هناك.. خسر الشعبي ملايير الدراهم في هذه المعركة التي دخلها وهو على حافة الغروب، وأصبح مقلا في الظهور الإعلامي ولاذ بالصمت… عندما أطل الربيع العربي برأسه على المغرب، نزل إلى الشارع يساند شبابا في عمر أحفاده خرجوا يطلبون الإصلاح.
سيدفن جثمان الرجل تحت التراب، أما سيرته فستبقى فوق الأرض للدرس والعبرة بما لها وما عليها، لكن الشعبي نجح في ما فشل فيه الكثير من الأغنياء الذين بنوا أسماءهم بالدرهم والدولار، وولدوا وماتوا وهم يبتعدون عن السياسة ويتقربون من السلطة.. عاشوا وماتوا بلا رأي ولا لسان ولا قدرة على قول لا.. أعطوا من كرامتهم لتزداد ثروتهم… الشعبي كان المال في يده وليس في قلبه، وقبل أن يموت ترك هبات كثيرة لمدارس ومساجد وجامعة أمريكية عريقة وهبها 10٪‏ من ثروته لكي تزرع شجرتها في المغرب، ولتعطي ثمارها للأجيال المقبلة، خاصة المتفوقين من تلاميذ الفقراء… قال لي يوما: «هل تعرف أنني لم أستعطف أحدا إلا مرة واحدة؟»، قلت، كمن عثر على شيء نادر: «من هذا الذي استعطفه الشعبي المعتد دائما بنفسه؟»، قال: «مدير البعثة الفرنسية في الدار البيضاء الذي رجوته أن يدخل أبنائي إلى المدرسة الفرنسية بعدما طردهم أوفقير من المدرسة المغربية بالقنيطرة لدفعي إلى مغادرة البلاد».. عاش واقفا ومات واقفا كما الأشجار الشامخة.. رحمك الله.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

brahim ECHARKI منذ 8 سنوات

au paradis inchaa allah a ssi MILOUD

منير الرباط منذ 9 سنوات

رحمه الله واسكنه فسيح الجنان

ام فرح منذ 9 سنوات

الله برحم واجعل الجنة متواه يارب

عبيد الشرقاوي منذ 9 سنوات

رحم الله هذا الرجل، كان قدوة للخلف في العصامية و الجد و المثابرة و عزة النفس و الوطنية

مغربي يكره النفاق منذ 9 سنوات

الله يرحموا ويوسع عليه

عبد اللطيف منذ 9 سنوات

اللهم ارحمه واكرم نزله , واغفر له , مثل هؤلاء لايموتون , انهم احياء عند ربهم يرزقون ,

علي الإدريسي منذ 9 سنوات

كلمة جق في حق رجل عصامي احترم آدميته وإنسانيتة. وكان يعرف ويدرك معنى قوله تعالى {أيك نعبد وأياك نستعين} رحمه الله وأمثاله من الذين عاشوا ويعيشون من أجل الحرية والعدالة والكرامة.

RACHID منذ 9 سنوات

رحم الله الشعبي وأسكنه فسيح جناته آمين.

عبدالوهاب بنعبدالله منذ 9 سنوات

رحمة الله عليه

Melhaoui Elhoussine منذ 9 سنوات

ـ كان مُدَرِّسي في مادة اللغة العربية السيد ـ بشيري ـ رحمه الله ، يردِّدُ على مَسامِعِنا بين الفينة الأخرى، عند حديثه عن الرجال أصحاب العزيمة القوية،هذه الجملة التي كلما تذَكَّْرتُها جدّدْتُ عليه الرحمات ،رغم مرور أربَـعٍ وخمسين سنة على ذلك ، ـ رجُلٌ كألْفِ رجُلٍ ، ـ وألْفُ رجلٍ كــأُفْ. ـ رحم الله الشعبي ولد الشعب.

Elmerrouni Alami mohammed منذ 9 سنوات

Si Taoufique votre hommage au défunt Miloud,que Dieu ai son âme dans sa sainte miséricorde est touchant et sincère.Effectivement ce blédard de bonhomme était un exemple d'intégrité et de bonne foi dans ses croyances et dans ses projets et il en a fait des jaloux tout aux débuts de ses premiers pas à Kénitra,venant de Bhalil tout jeune gamin dans les années 70 passer mes vacances chez mon oncle, chez nos cousins Les M'Chiche's Alami de cette ville,j'entendais déjà à cette époque leurs médisances et mauvais jugements à l'encontre de cet homme qui les concurrençait dans les affaires juteuses dans la capitale du gharbe.Mais comme dit le vieux adage calomniez, calomniez il en restera toujours quelque chose,l'étoile de ce 3roubi a brillé et a fait de lui un homme d'affaires connu et recensé mondialement en tant que tel,un vrai honneur pour nous tous Les Marocains ,un parmi le peloton des riches qui n'a pas sali ni sa personne ni son fric par le sang et l'odeur nauséabonde de l'argent sale qui a poussé d'autres individus, à courir derrière pour le ramasser par tous les moyens illégaux en leur possession qu'ils soient politiques ou mafieux.Nous sommes à Dieu et nous lui retournons et l'argent restera là ,car nous sommes que poussière et à la terre nous retournons.

عبد الله منذ 9 سنوات

رحمة الله على الرجال.

مواطن من تطاون منذ 9 سنوات

رحمك الله تعالى يا عظيم الرجال الوطنيين المغاربية بالرغم لم اتعرف عليك إلا بعد وفاتك. رحمك الله تعالى يا وطني غيور على بلده وافتصاده وفقراءه رحمة واسعة الذي زدتني معرفة ووعيا بان الثروة الوطنية لاتبنى بقوة تدخل السلطة الرسمية بقدر ما تبنى بالارادة الشامخة والشجاعة النادرة وبالتوكل على الله ، بقيت يا ابن بلدي غيورا وطنيا ثريا مستقيما ترفرف على جبال الأطلس الشامخ شامخ الجبهة والرأس لا تلتفت لهذا ولا إلى ذاك مستعينا برب العالمين غير ابه بما يفعله هؤلاء السلطويون المخزنيون من افاعيل غير وطنية تندى لها الجباه الذين راكموا ثروات بوار التي لايستحقونها بحيث استغلوا عرق جبين الكادحين وتهربوا من دفع الضرايب حتى فضحتهم وثايق بنما وعرت عن وجوههم القبيحة وضمايرهم السيية وسار الركبان من كل جهة تفضحهم وتؤرق نفوسهم الخبيثة ، يا لها من فضيحة بانمية نكراء عظيمة الاثر التي كشفت عن سوءاتهم ولطخت من سمعتهم وذكرهم البراق الخادع . فسحقا لهؤلاء المخادعين الغشاشين وطبت ذكرا ونسيما عطرا يا ابن فقراء الأطلس الشامخ ورحمتك الله برحماته ومغفرته الواسعة وادخلك فسيح جناته .

alhaaiche منذ 9 سنوات

Wa tbarkelah Ala Panama Pepers

مدون ومفكر منذ 9 سنوات

رحم الله الشعبي وأسكنه فسيح جناته آمين الشعبي رجل من ذهب كلما ضغطت عليه احتكاكا زاد لمعانا فلا نامت أعين الجبناء الفاسدين" ثم يوم القيامة عند ربكم تختصمون"الآية

افالكاي منذ 9 سنوات

هذا هو الرجل المخلص لبلده ولدينه ولهويته، لايخاف الا من خالقه ، متشبع بتمغربيت ، متشبت بالاصالة والمعاصرة ، الاصالة في امازيغيته حيث سمى مجموعته باسم امه الامازيغية ( إنّا هولدينك) والمعاصرة في التنازل على 10% من ثروته للجامعة الامريكية لتطوير ابناء المغرب ، رحمك الله يا بطل

MOHAMED ATMANE منذ 9 سنوات

رحم الله الميلود الشعبي وجعله قدوة للذين يريدون الاغتناء بالطرق الملتوية اللامشروعة فكما قال الاخ المحترم بوعشرين عن الرجل عاش واقفا ومات واقفا عكس مايفعله الكثير من رجال الثروة الذين ينحنون في اول عاصفة متملقين متذليلن خاضعين لرغبات من اغتنو على حساب الدولة وتوجهتاتهم اسئلة ظللت اطرحها منذ مدة لماذا ضيق على ميلود الشعبي ومشاريعه الانه شعبي من ابناء الشعب حصل على ثروته بعرق جبينه ام لانه لاينبغي ان يكون قدوة لابناء الشعب حتى يحصلو على ثروة مشروعة؟لماذا يسمح خصومه لشركات الاجنبية بفتح شبكاتها دون حسيب ولارقيب ويمنعون الشعبي من فتح اسواق السلام في ربوع الوطن على كل لايسعني الا ان اترحم على الفقيد الميلود الشعبي رحمه الله وجعله في الفردوس الاعلى وانالله انا اليه راجعون

محمد منذ 9 سنوات

رحمه الله تعالى ..... انه الان في عالما افضل من عالمنا مع اناس من نور ..... باذن الله

التالي