عطلة الكائنات العجيبة

15 أغسطس 2016 - 09:19

في الإعلام الرسمي، يقضي المغاربة العطلة في الشواطئ والمنتجعات ويمارسون الرياضة وينتظمون في رحلات ترفيهية ويرسلون أبناءهم للمخيمات، بالتوازي مع قسط من التلاميذ “النجباء”، الشغوفين بالعلم والمعرفة، الذين يحبون أن يستغلوا الصيف في مراجعة دروس العام الدراسي المقبل أو تعلم لغة جديدة، سواء من اللغات الحية أو لغات البرمجة، يوازيه قسط من الأساتذة الجاهزين دوما لإشاعة العلم والمعارف، والاستفادة من هذا الشغف الدراسي المدر للدخل.
هذه ربما تكون صورة قريبة لتلك التي ترتسم في ذهن جزء من الناس عن موسم الصيف. لكن ككاتب قادم من المغرب العميق أحب أن أحدثك قارئي العزيز عن صورة أخرى، لا تظهر في الإعلام كثيرا، لأن عناصرها لا تزور الشواطئ البعيدة والمتوحشة، ولا تقضي الصيف في المنتجعات، ولا تتعلم اللغات ولا تحب الدراسة صيفا وشتاء، ربيعا وخريفا.
الحر يعكر صفو العناصر المكونة لهذه الصورة، لكنها لا تطفئه بالسباحة في البحر، وإنما بإشعال سيجارة أكثر التهابا. تخاف الشمس لأنها تمثل بالنسبة لها مصدر ضربات محتملة، ولا يمكن تحت أي ظرف أن تعرض أجسادها لأشعتها طمعا في التشميس وتغيير اللون. لازالت قصص وأخبار وأحاديث أبناء المهجر الوافدين على أحياء شخوص هذه الصورة، المحتلين لطاولاتهم الأثيرة بالمقاهي تخلق الحدث في صيفهم البئيس. فلان غيّر السيارة، فلانة توفي العجوز الألماني الذي تزوجها ويقال إنها ورثت منه ثروة كبيرة، ابنة عم فلان أنقذته من الضياع ودبرت له زواجا بصديقة إسبانية تقتلها الوحدة، هذا اشترى مقهى، وذلك باع قطعة الأرض، فلان انقطعت أخباره، والآخر عاد للمغرب خاوي الوفاض، والأسرة الفلانية انتقلوا للعيش كلهم بقلب لندن، “سعداتهم”، ويختمون الحديث بدعاء التمني “والله يحن علينا تا حنا”..
الصيف يمثل أيضا، بالنسبة لهذه الكائنات، موسما “لاختراق” الأعراس والحفلات والمناسبات، والرقص حتى الإغماء، وتنظيم الولائم، ونسج علاقات عاطفية جديدة، وعبور الحي طولا وعرضا، بصندل وملابس خفيفة دون أي معنى أو سبب اللهم “تثمين” عضلات الجسد التي اشتغل صاحبها بجد ونصب على فتلها لشهور عديدة داخل صالات اللياقة البدنية..
الصيف هو أيضا، لطائفة منهم، موعد لرؤية الغائب وسماع صوت الجدران التي اختبأ كل طفل منهم وراءها في لعبة الغميضة، وتلمُس الأشياء العتيقة، ومنحها بطاقة عبور نحو الذاكرة لإيقاظ ما تشاء من ذكريات هاجعة في الفؤاد من سباتها العميق. قضاء العطلة بين جدران بيت عتيق بحي قصي أحب لهذه الكائنات الغريبة من قضائها تحت الشمس والرمال ببحر بعيد.
وفي الحقيقة، لم تبتدع هذه الكائنات العجيبة، التي تمثل الصورة الأخرى لإجازة الصيف، والتي تنتشر في مدن المغرب العميق، أساسا هذه العوائد والسلوكات التنفيسية في الغالب إلا بسبب، أولا، إمكاناتها الاقتصادية المتدنية، مع نسبة ادخار شبه منعدمة، أو إن كانت فلا تسمح بـ”تبديدها” في عطلة مكلفة، وثانيا، بسبب غياب أي متنفس داخل تلك المدن يسمح ولو بدرجة دنيا من الإحساس بالعطلة (منتزهات، حدائق نباتية، قاعات عرض، قاعات للعب الأطفال، مسابح، متاحف، دور ضيافة..)، وثالثا لغياب خطة فعالة لتشجيع السياحة الداخلية..
قد يجد بعض القراء هذه الأسباب غير مقنعة، ومنهم من قد يعترض على فكرة أن هناك من لا يزور لا البحر ولا الجبل ولا والواحة، وقد يتهمني بالمبالغة، وتسفيه جهود النهوض بالسياحة الداخلية، وأنا لا أطلب منه أن يلغي صورة “بلد الشمس والبحار والمصطافين”، أطلب فقط أن يضيف إليها صورة من ينتجون العطلة عن طيب خاطر بشكل بديل..

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *