لماذا لم يدقوا الجدران؟

17 أغسطس 2016 - 22:00

بقي أكثر من 13 مليون مغربي خارج لوائح الانتخابات المعتمدة في استحقاق السابع من أكتوبر، أي أن نصف المغاربة ممن بلغوا سن الرشد السياسي لن يذهبوا يوم السابع من أكتوبر إلى صندوق الاقتراع، ولن يقولوا رأيهم في من سيسهم في الحكم إلى جانب الملك في الخمس سنوات المقبلة، ولن يوظفوا صوتهم الانتخابي لمعاقبة الأغلبية الحالية ولا لمكافأة حكومة بنكيران…

لا تقولوا لي إن 13 مليون مغربية ومغربي الذين ظلوا خارج العملية الانتخابية كلهم أعضاء في جماعة العدل والإحسان، أو في خلايا النهج الديمقراطي، أو أنهم ناشطون في حركة 20 فبراير، وأن لديهم مخططا آخر للتغيير ولمحاربة الفساد والاستبداد في المغرب، هذه ليست حجة، فكل الحركات والأحزاب والجمعيات والنقابات والمنظمات والزوايا لا تؤطر حتى 10٪‏ من الشعب، حسب كل الدراسات واستطلاعات الرأي التي أنجزت في العشر سنوات الأخيرة بالمغرب، ويبقى التفسير الوحيد الذي يقنع كاتب هذه الأسطر، إلى أن يثبت العكس، أن عزوف أغلبية الشعب عن المشاركة السياسية، وعن توظيف الصوت الانتخابي لصناعة التغيير الهادئ والجزئي، راجع إلى غياب الوعي السياسي العميق لدى الجمهور، وفتور الإرادة القوية لدى الشعب في أخذ زمام المبادرة بيده، ودخول حلبة السياسة بمفهومها الواسع.. السياسة التي تعطي الفرد قيمة وفعالية، والأغلبيةَ سلطة وهيبة، والأمة تأثيرا في المصير، سواء باستعمال التصويت في الانتخابات أو الاستفتاءات أو التظاهرات أو الاحتجاجات، أو بالتعبير عن الرأي، أو بالانتماء إلى حزب أو نقابة أو جمعية أو نادٍ أو منظمة حقوقية.

السياسة بمفهومها العميق لم تدخل، بعد، إلى رؤوس أغلب الشعب الذي يعاني مشاكل بلا حصر، لكنه يوم الاقتراع يبيع صوته بـ200 درهم، ويقضي السنة كلها يسب الفساد ويلعن المفسدين، ويبكي حاله وحال أولاده، لكنه لا يخرج في تظاهرة سلمية أمام البرلمان ليقول لا للريع، ولا لدولة الكيلومتر 9، ولا يسجل نفسه في اللوائح الانتخابية ليعبر عن رأيه، ولا يوقع حتى بيانا يستنكر فيه واقع حاله. إنه شبيه بمن لم يجرؤوا على دق جدران الخزان في رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» قبل نصف قرن، حيث كان سؤال كنفاني المدهش والصادم في الرواية الرائعة هو: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان»؟ أولئك المستسلمون لقدر الموت في خزان شاحنة لم يجرؤوا على دق الخزان لإسماع صوتهم للعالم، وفضلوا الموت اختناقا… ثلاثة رجال فروا بجلودهم من مخيمات اللاجئين، فيغريهم الخبيث أبو الخيزران بالهروب إلى الكويت في بطن خزان شاحنة مغلق، ويسير بهم تحت شمس حارقة في الصحراء حتى ماتوا دون أن يجرؤوا على دق جدران الخزان. كانت الرواية صادمة يوم صدورها سنة 1963، وهي تصور الوجه الآخر للنكبة.. إنه الاستسلام للواقع من قبل الشعب.

الشعب، مثل بعض النساء، لا يعجبه أن يسمع إلا ما يرضيه أو ما يطريه، لا يحب أن توجه إليه سهام النقد، دائما الخطأ والخطيئة في الآخر، في السلطة، في الأحزاب، في الإعلام، في حين أن الشعب نزيه، طاهر، مثالي، وتقريبا نبي في أرض انقطع عنها الأنبياء والرسل. إن تقديس الشعب والخوف من نقده ثقافة من بقايا الديمقراطية الشعبوية، والاتجاهات الماركسية التي كانت تعلي من قيمة الجماهير، فلاحين وعمالا وطلبة، طمعا في انضمامهم إلى صفوف الثورة البروليتارية ضد البرجوازية «المتعفنة»! بعدها أصبح تملق الجماهير عادة في الأنظمة الديمقراطية، حيث الأحزاب تسعى إلى السلطة لا إلى قول الحقيقة للناس، ومادام صوت الشعب هو الذي يوصل إلى الحكم، فإن الدعاية السياسية طورت أدبا كاملا في تملق الشعب والجماهير، والأمة التي تصنع التاريخ كل يوم، وتجر الأمجاد العظيمة خلفها كل سنة، وتتطلع إلى المستقبل طاهرة، نقية، ورعة، بلا مصالح ولا مثالب كل أربعة أو خمسة أسابيع.

أكثر ما يشدني إلى بعض المفكرين والمثقفين، كعبد الله العروي، أنه لا يسعى إلى إرضاء الشعب، ولا يخطب ود الأغلبية، ولا يتملق الجماهير.. يقول كلمته مهما كانت قاسية، ويوجه سهام نقده إلى السلطة والشعب معا، إلى الدولة والأمة، إلى الحاضر والماضي، إلى الثقافة والتراث، عكس أجل أقرانه ممن تأثروا بالثقافة اليسارية التي أرسى أسسها مناضلون أو مثقفون عضويون لا يضعون مسافة معقولة بين الالتزام الأخلاقي تجاه القضايا التي يدافعون عنها، وضرورة التحليل العلمي، وقول الحقيقة للجميع، شعبا وسلطة، أمة ودولة، فردا وجماعة.

ربح المغرب مع 20 فبراير دخول عشرات الآلاف من الشباب المجال السياسي، ودخول مئات الآلاف منهم إلى لوائح الانتخابات بعدما كانوا يقاطعون ويسخرون من التصويت ومن الأحزاب. الحركية التي خرجت مع الربيع المغربي صالحت جزءا من الشباب مع السياسة بمفهومها النبيل، وحتى عندما توقف الشباب عن الخروج المادي إلى الشارع استمروا في النضال الافتراضي في مواقع التواصل الاجتماعي بكل الروابط والجسور الموجودة بين الواقعي والافتراضي، كما أثبت الربيع المغربي، لكن هذا ليس كافيا لإحداث نقلة نوعية في الحقل السياسي.. نقلة تسحب اختصاص صناعة الخرائط الانتخابية من مطبخ وزارة الداخلية.. نقلة تجعل الشعب حقيقة لا مجازا.. نقلة تعطي الأغلبية حق تنصيب من يحكم، ومعاقبة من يلعب بمصير بلد كامل وشعب كامل.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عبد الله منذ 6 سنوات

عندما تصف شريحة مهمة من المجتمع تصل إلى أكثر من مليوني مواطن باﻹنتهازيين فأنت تعبر عن مدى سخافتك وليس ثقافتك!!

مقص الرقيب منذ 6 سنوات

مقص الرقيب داخل الإعلام المستقل ، إقصاء التعاليق التي تتبنى طرحا محالفا .

nakhli منذ 6 سنوات

المثقفون هههههه

ryuk othmlo منذ 6 سنوات

chekou l badile ?

الورزازي منذ 6 سنوات

أكثر عبارة تثير استغرابي هي حين يقول أحدهم : احترموا ذكاء الشعب!

نور الدين منذ 6 سنوات

للمصوتين مصلحة : اما 200 درهم او وعود بعمل او المرشح من الاقارب او ابن القبيلة .

عبد المجيد العماري منذ 6 سنوات

اذهب يا أخي توفيق إلى القرى والبوادي وسترى أن كل المقاطعين بدون استثناء لهم مستوى جامعي،أما الأغلبية الساحقة المصوتة هناك فهم من حرمتهم الدولة من حقهم في التعليم.سأكتفي بهذا لعل وعسى لأنني لاحظت أنك بدأت تتجاهل تعليقاتي ولا تنشرها ،وأنا لا أدعي فيها امتلاك الحقيقة إنما أعبر عن رأيي فقط.

سقال احمد منذ 6 سنوات

نعم انها الحقيقة الغائبة او المغيبة فغالبية المقاطعين هم من المثقفين والفئة المصوتة لا تعرف سوى حزبين او ثلاثة وتجهل الاحزاب الاخرى انها الامية السياسية

aniss_e منذ 6 سنوات

الشعب يقاطع لانه فعلا لم يعد في القنافذ أملس . الشعب كان يعول على pjd للظغط لتغيير قانون اللعبة السياسية عمليا فاذا ببنكيران و اصدقاءه كل مايهمهم هو كيف ينظر اليهم الملك على الرغم ان موقف الملك من djd معروف و لولم يكن الشعب بجانبهم لحل (بظم الحاء) الحزب في 2003 و بالتالي فان الشباب يأبى أن يستعمل (بظم الياء) لإضفاء الشرعية على انتخابات ستكرس اللعبة السياسية الحالية ويفضل اختيار اخف الضررين وهو المقاطعة.

larbiouma منذ 6 سنوات

تحليل اقرب الى الصواب والمقاطعة الغفلة من مرادات المرعوبين من اي اصلاح واقناعهم يتطلب مجهود فكري ومساندة إجتماعية وزمن غيريسير وصبرالصادقين

ابر عاز منذ 6 سنوات

عندما ارادا صناع القرار تعريب التعليم في المغرب لم يكن الوازع ينبعمن حب لغة القران او ارضاءا للعروبة ولا حتى كسب قيمة اصافية لتسريع وثيرة النمو والتوعية في هدا البلد بقدر ما كان القصد منه هو توجيه التثقيف والقراءة الى وجهة محكومة بالسقف والنوع على النحو الدي يسهل معه تحقيق اهداف سياسية محددة...........وها نحن نعيش حاليا تجلياتها السلبية بدون شعور ;وانتم من الاوائل الدين لم يدقوا جدران الخزان قبل فوات الاوانل ولا تشعرون فمن يعتمد على مصادر مترجمة مخدوع ومن يدرس لغة واحدة مخدوع واغلب الاقلام تصبح سهلة ولينة وقابلة للمقايضة مع من يدفع اكثر وهده نتيجة التخريب التي جعلت من بعض الصفيين اول المستسلمين للموت بسبب التعريب الفكري........اما الناجون فصامدونينتظرون فشل التوجيه في كل شيء لتظهر لك الحقيقة المؤلمة

حسن المجدوبي منذ 6 سنوات

ممتاز ولكن جمعت البيض كله في سلة واحدة

رشيد عبيدة منذ 6 سنوات

والله كلما قرأت لك يا سيد توفيق بو عشرين أشعر بالفخر ينبع مع كل حرف تكتبه لهاته الأمة الخانعة.. كما و أشعر بضآلتي وخزيي ومذلتي كمواطن مع وقف التنفيذ بسبب جهاز التحكم الذي يكمن بيد صناع خرائط التهميش والإقصاء ببلدي المغرب..لكن الصدمة والطامة الكبرى يا أخي أن معظم شباب جيلي لا يهتمون سوى للمقابلات الرياضية واللقاءات الرومانسية رفقة خليلاتهم..ولا مكان للسياسة وشؤون الوطن بعقولهم النائمة في سبات طال أمده..والحالة هاته والوقت هذا انا متأكد أنك أسمعت إن ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي.

kamal elmossaui منذ 6 سنوات

كلا ان غالبية المقاطعين من الفئات المثقة واغلب المصوتين من الانتهازيين