يبحث المغاربة عن حكومة ولا يعثرون عليها، يفتشون عنها مرة في بيت بنكيران، وأخرى في فيلا أخنوش، وثالثة في مقر العرعار، ثم يكتشفون أن لا حكومة حتى يرجع الملك من السفر. الأحزاب تتصرف في السياسة وفق خطاطة الأب والابن.
ينظر المغربي حوله بيأس عميق.. صندوق الاقتراع غير مؤهل ليلد حكومة، حتى وإن كانت ضعيفة ولا تُمارس نشاطها بفعالية وقوة. هذا هو حال بلاد تقول منذ قرن إن داء العطب فيها قديم، وإن تاريخها هو تاريخ إجهاض الإصلاحات.
ينظر العالم المهتم بهذه القطعة الجغرافية من شمال إفريقيا إليها باستغراب متسائلا: كيف لا يصل أهل المغرب إلى توافق يفضي إلى حكومة إصلاحية وليست ثورية، محافظة وليست «تقدمية». كانت الحكومات في بلاد المغرب، على الدوام، ائتلافية، وكانت دائما تعرف حدودها، وتشتغل بالدستور المكتوب وغير المكتوب، فماذا حصل الآن؟ ثم يراجع المهتمون أوراقهم ودروسهم عن الخصوصية المغربية، وعن الاستثناء الذي رفع شعارا منذ خمس سنوات، واتضح أنه مجرد شعار.
بنكيران يجلس بقشابته البيضاء في منزله عنوانا على انتهاء ليس فقط الكلام، ولكن انتهاء الفعل أيضا، في بلاد مشلولة منذ خمسة أشهر. البعض ينصحه بإرجاع المفاتيح إلى صاحبها والذهاب إلى انتخابات جديدة، والبعض ينصحه بالصبر وتفهم مشاعر الدولة التي صدمت بنتائج الاقتراع، ويقول له: «انس نتائج السابع من أكتوبر إذا أحببت أن ترجع إلى كرسي رئاسة الحكومة»، والبعض يدعوه إلى الانحناء للعاصفة وقبول شروط أخنوش ومن يقف وراء أخنوش، فيما هو لايزال متشبثا ببعض من كرامته، ويقول: «لقد قدمت ما يكفي من التنازلات، وإذا دخل لشكر إلى الحكومة من النافذة، فإن ما بقي من ‘‘المعقول’’ في السياسة سيخرج من الباب الرئيس، وبعدها لا يعود للمعنى من جدوى.. لقد جئت للمساعدة في الإصلاح، وإذا لم يعد الأمر ممكنا فسأنسحب للمعارضة، ولمَ لا نحل هذا الحزب المزعج ‘‘گاع’’».
أكبر متشائم من تطور الحياة السياسية لم يتوقع سيناريو مماثلا، يشل حركة البلاد لمدة خمسة أشهر، ويعطل المؤسسات الحيوية فيها (الحكومة، البرلمان، المجلس الأعلى للسلطة القضائية، مجلس المنافسة، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المحكمة الدستورية…)، لكن غير المتوقع وقع، وغير المنطقي حدث، وغير المفكر فيه أصبح واقعا أمامنا… ماذا يعني هذا؟
هذه الأزمة التي تعصف بالبلاد، وتجعل الدستور وثيقة غير قادرة على إنتاج حلول تضمن السير العادي للمؤسسات.. هذه الأزمة معناها العميق أن الدولة المغربية أصبحت عاجزة عن مسايرة إيقاع المجتمع، وأن السلطة أضحت جامدة أمام حراك مجتمعي يتطور، وأن وعي الناس يكبر، فيما صدر السلطة يضيق ذرعا بالتعددية السياسية، والممارسات الديمقراطية، وحرية القول والفعل والانتخاب… باقي المشهد مجرد تفاصيل.
عندما لم تستطع الدولة وأحزابها أن توجه العملية الانتخابية، وأن تتحكم في كل أصوات الناخبين، أوقفت اللعبة، مثل ذلك الذي يقطع التيار الكهربائي عن ملعب تجري فيه مقابلة لكرة القدم لا تعجبه نتائجها… هذا ما حدث مع بنكيران الذي فاز في اقتراع السابع من أكتوبر، رغم كل الحواجز التي وضعت في طريقه، لكنه فشل في تشكيل حكومة مع أحزاب شكلت تحالفا للبلوكاج بعد ساعات فقط من ظهور نتائج الاقتراع، وقررت أن تحرم المنتصر من ميدالية الفوز… ثم بدأت «شروط الخزيرات» توضع أمام بنكيران، مثل إبعاد حزب الاستقلال عن الحكومة بدون مبرر، وحتى قبل تصريحات شباط ضد موريتانيا، وامتناع الحكومة المقبلة عن صرف الدعم للفقراء، وقبول الاتحادين الدستوري والاشتراكي ضمن الحكومة لتشكيل أغلبية مريحة، وإن لم تكن الحاجة قائمة إليهما، وإعطاء رئاسة مجلس النواب هدية للحبيب المالكي… وهكذا دخلت البلاد في خطة لقتل الوقت، ولقتل زمن الإصلاح، ولتبريد حرارة اللحظة الانتخابية، والاتجاه إلى تشكيل حكومة لا صلة لها بالسابع من أكتوبر.
أصبحنا وكأننا أمام عقاب جماعي للمغاربة كافة لأن مليونين منهم صوتوا لحزب بنكيران، وصدقوا أن الانتخابات حرة ونزيهة، وأن الدولة تقف على مسافة متساوية بين كل الأطراف، والآن اتضح أن الناس لم يفهموا الرسالة، أو فهموها وتصرفوا عكسها، ولهذا، يجب أن يؤدوا ثمن ذلك من فرص الشغل ومعدل النمو وجدول الإصلاحات المعلقة على باب حكومة غير موجودة.
الذين يقودون هذا البلوكاج، الذي أصبح مكلفا جدا، يعرفون ما لا يريدون، لكنهم لا يعرفون ماذا يريدون. بعبارة أخرى، «جبهة البلوكاج» لا تريد بنكيران، أو لا تقبل به رئيسا للحكومة، لكنها لا تعرف كيف تجد له بديلا، ولا تقدر على تحمل مخاطر خلق حكومة مفصولة عن السند الشعبي، وتجميع أحزاب الإدارة في ائتلاف له مقاعد برلمانية لا تساوي الكثير في ميزان المشروعية السياسية… وإلى أن تجد حلا لهذه المعادلة الصعبة، فإن البلوكاج مستمر، وهدر الزمن متواصل، فالدفع من جيب الغير سهل.