ليس لكم إلا الصبر أو مغادرة البلد

15 مايو 2017 - 17:00

عوض أن تعطي الحكومة والبرلمان المثال في احترام الدستور، والامتثال لأحكام القضاء، والالتزام بقواعد العدالة والإنصاف، نجد سلطتي التنفيذ والتشريع تتواطآن معا على خرق الدستور والقانون، وتشرعان معا لاحتقار الأحكام القضائية الحائزة قوة الشيء المقضي به، وهكذا تعطيان صورة سيئة عن أخلاق الدولة في الداخل والخارج. إليكم آخر مثال من مشروع القانون المالي الذي صادق عليه مجلس النواب الأسبوع الماضي.

نصت المادة الثامنة مكرر من مشروع القانون المالي لهذه السنة على: «في حال صدر حكم قضائي اكتسب قوة الشيء المقضي به، يدين الدولة والجماعات الترابية بأداء مبلغ معين، يتعين الأمر بصرفه داخل أجل شهرين من تاريخ تبليغ المقرر القضائي المذكور آنفا، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تخضع أموال وممتلكات الدولة للحجز لهذه الغاية».

وما العمل إذا رفضت الدولة أو الجماعات الترابية أداء ما بذمتها خلال شهرين لمواطن نزعت الدولة أرضه، فاشتكاها إلى القضاء الذي حكم له بتعويض مستحق؟ لا شيء، المادة تقول للدائنين اصبروا حتى تتوفر الدولة أو الجماعات المحلية على اعتمادات لأداء ما بذمتها لكم في حدود الاعتمادات المتوفرة لديها، وإلا فإنكم لن تستطيعوا إجبارها على تنفيذ الحكم بالحجز أو بغيره.

ماذا تعني هذه المادة التي أحياها فريق العدالة والتنمية، بعدما تخلت عنها حكومة بنكيران في القانون المالي لسنة 2015، ولم تستطع تمريرها بعدما أثارت ضجة إعلامية وحقوقية كبيرة؟

لنفترض أن أرملة مات زوجها وترك لها هكتارا من الأرض لتعيش منه وأبناؤها اليتامى، فجاءت الدولة، أو مجلس المدينة، ونزع منها ملكية الأرض للمصلحة العامة (لبناء طريق عمومية مثلا)، وأعطتها الدولة تعويضا قدره 10 دراهم للمتر المربع فقط. السيدة رفضت هذا السعر الزهيد لأرضها واعتبرته مجحفا، فذهبت إلى القضاء الإداري لتطالب بحقوقها كاملة، فحكمت لها المحكمة الابتدائية بتعويض عن الأرض المنزوعة منها قيمته 100 درهم للمتر المربع. الدولة نازعت في هذا الحكم الذي صدر بعد سنة ونصف من النازلة (هذا هو معدل النطق بالحكم في المحكمة الابتدائية، إذا لم يكن أكثر)، فذهب المتنازعان (الأرملة والدولة المغربية) إلى محكمة الاستئناف، وبعد سنة ونصف أخرى، أيدت محكمة الاستئناف الحكم الابتدائي فصار نهائيا. الدولة لا تطبق الأحكام النهائية، كما هي عادتها، بل تتوجه إلى محكمة النقض للطعن في الحكم. بعد سنتين أخريين، رفضت محكمة النقض الطعن المقدم من قبل الدولة على الحكم الاستئنافي. هنا يصير الحكم لصالح الأرملة حائزا قوة الشيء المقضي به، وملزما للدولة، ومطلوبا منها تطبيقه فورا، وإلا عرضت نفسها لعقوبات أخرى.

الأرملة المسكينة، وبعد خمس أو ست سنوات من التقاضي أمام المحاكم، حصلت على حكم حائز قوة الشيء المقضي به، وذهبت إلى رئيس الحكومة، الذي هو الممثل القانوني للدولة، لتنفيذ حكم بتعويض الأرض المنزوعة بقيمة مليون درهم، وبعدما ظلت طيلة هذه المدة بدون مورد رزق، غارقة في «الكرديات» لتعيل أسرتها وتصرف على المحامي الذي يدافع عنها، ماذا سيقع مع القانون المالي الجديد؟ ستقول الدولة لهذه السيدة، بعد أن تستغرق أشهرا عديدة في مسطرة التبليغ والتنفيذ: ‘‘ليس لدي هذه السنة اعتمادات كافية لتنفيذ الأحكام’’، وإذا حاول محامي السيدة المسكينة الحجز على حسابات الدولة لإجبارها على تنفيذ الحكم، كما يحدث مع الأفراد، ستمنعه المادة 8 مكرر من القانون المالي من فعل ذلك.

بعدما اقتنع قضاة المحاكم الإدارية بأن لا سبيل لدفع الدولة إلى احترام أحكام القضاء إلا بالحجز على حساباتها ومنقولاتها وعقاراتها، وبدأت الإدارة تخضع لأحكام القضاء، جاءت المادة الثامنة مكرر لتعطي الجماعات الترابية والدولة حصانة قضائية ضد أحكام ملزمة، فقط لأن بعض عمداء المدن، التابعين للبيجيدي، عجزوا عن تدبير مشاكل مجالسهم مع المواطنين، فاستغلوا صفتهم البرلمانية من أجل التشريع للإفلات من تنفيذ أحكام قضائية، فخرقوا الدستور الذي يقول فصله 126: «يجب على الجميع احترام الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء»، وخرقوا القانون التنظيمي للمالية الذي تنص مادته 6 على أن «قانون المالية لا يمكن أن يتضمن إلا أحكاماً تتعلق بموارد الدولة ونفقاتها، وتحسين شروط تحصيلها، ومراقبة المالية العمومية». وهو ما سبق أن رفضه المجلس الدستوري بالنسبة إلى قانون المالية 2008 بخصوص نازلة الرادارات. كما تجاهل مقترح البيجيدي توصية ملكية جاءت في خطاب محمد السادس الأخير في افتتاح الدورة البرلمانية، جاء فيها: «المواطن يشتكي، بكثرة، طول وتعقيد المساطر القضائية، وعدم تنفيذ الأحكام، خاصة في مواجهة الإدارة، فمن غير المفهوم أن تسلب الإدارة المواطن حقوقه، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها، وكيف لمسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي؟».

كانت الإدارة، قبل إقرار مشروع القانون المالي هذا، تتملص من تنفيذ الأحكام القضائية وهي محرجة. الآن صارت تعطل الأحكام باسم القانون… وطبعا وزارة المالية وافقت على هذا التعديل/الفضيحة، الذي أدخلته كتيبة البيجيدي على القانون المالي، وفرح بوسعيد به لأنه عجز عن تمريره مع بنكيران، وها هو يمرره باسم البيجيدي في عهد العثماني.

إذا كان البعض يدفع المال لبعض القضاة من أجل الحصول على تعويضات خيالية ضد الدولة والجماعات الترابية، لأن الأخيرة لا تدفع رشاوى، وليس في بنود قانونها المالي ميزانية لرشوة القضاة، فهذا مشكل لا يحل بإضفاء الحصانة القضائية على الدولة والجماعات المحلية. هذه ضريبة إفشال مشاريع إصلاح القضاء التي لم يفلح أي منها في الحد من سلطة المال والتعليمات على ضمير القاضي.

إن هذه المادة، إذا مرت في مجلس المستشارين، ولم يطعن أحد فيها أمام المحكمة الدستورية، فهذا معناه أن حق الملكية لم يعد محفوظا في المغرب، وأن الدولة لا تضمن حقوق أحد وإن صدرت أحكام قضائية لصالحه، وأن الذي يختار الاستثمار في المغرب، من الأجانب أو من أبناء البلد، عليهم أن يبحثوا عن شركة تأمين عالية المخاطر تؤمن استثماراتهم، لأن الدولة تقول لك: إذا صدر حكم لصالحك ضدي، بعد سنوات طويلة من التقاضي، فأنا لست مجبرة على الأداء، إلا في حدود ما أستطيع، ولا أحد يملك القدرة على الحجز على أموالي وأملاكي، ولا أحد يستطيع أن ينازع في تقديري لما أستطيعه ولما لا أستطيعه، ولذا، ليس لديكم من حل إلا الصبر أو مغادرة البلاد.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

بوعشرين المكناسي منذ 6 سنوات

مقال رصين والذين يدعون أن بوعشرين يطبل للبيجيدي هاهو الان ينتقدهم .هنا في طنجة الكل متوقف منين جات هاد البيجيدي 5000 رخصة بناء معطلة ولا حلول العديد من العمارات بانية ولا تسطيع ان تسلم الشقق للسكان

jaafer tiqadine منذ 6 سنوات

بعد تحياتي استاذنا الكريم الصبر مر ومغادرة البلاد امر منه واننا نستحق اكثر من هذا لاننا الفنا الركوع واللامبلاة والخوف من الفزاعات نعم مجرد فزاعات تقرر مصيرنا بجرة قلم بيد امي جاهل ولوهم امورنا عبر انتخابات مضحكة مبكية مشبوهة الجمونا حتى اضحينا كالكراكيز يحركوننا كيفما شاؤوا وضعنا يبكي العدو اشفاقاعلينا الخلاص ياربي خلاص

abdou منذ 6 سنوات

من اجل هده المشاريع القانونية تمت ازاحة بن كيران

أبو سامي منذ 6 سنوات

السي بوعشرين إذا ظهر السبب بطل العجب ألا تعلم وأنت خير العارفين أنه قد تم تحريك عدد من الدعاوي النائمة في عدد من الجماعات التي فازت فيها العدالة والتنمية بالعمودية وذلك من أجل تكبيل هذه الجماعات حتى تعرقل جل مشاريعها والدليل الصارخ جماعة طنجة التي حركت القضايا بقدرة قادر لتتجاوز الأحكام 22 مليار. فهل يستقيم هذا الأمر؟ أضف إلى ذلك عملية إرشاء القضاة كما أشرت لذلك للنفخ في التعويضات وهذا شيء ملموس والمثال الحي على ذلك أصحاب الأراصي الفلاحية الذين انتزعت أراضيهم لفائدة الطريق السيار في قبيلة احصين قرب سلا الجديدة وتقاضوا التعويضات بمئات الملايين ثم قاموا باستئناف الحكم ليتم الحكم لفائدتهم من جديد بأضعاف تلك المبالغ التي تقاضوها!!! اللهم إن هذا منكر. وطبعا لايجب أن تعمم.

الطيب العلمي العدلوني. محامي بهيئة المحامين بالدارالبيضاء. منذ 6 سنوات

فعلا عدم تنفيذ الادارة للاحكام القضائية النهائية الصادرة ، باسم جلالة الملك والمكتسبة لحجية الامر المقضي يعتبر مسا بهيبة القضاء و قدسيته كما يعتبر تنصلا للدولةمن تحمل مسؤوليتها اتجاه الافراد و الجماعات كما يعني فقدان الثقة في مؤسسات الدولة و في قضاءها و بالتالي ضرب الاقتصاد و الاستثمار.و ما الى ذلك من وجوه العبث بمصالح الناس و تشجيع للرشوة و استغلال النفوذ و الزبونية و المحسوبية . ان الطعن دستوريا في المادة 18 من قانون المالية اصبح اجراءا ضروريا تمليه قواعد العدالة و حسن سير المرافق العمومية و احترام التزامات الدولة اتجاه مواطنيها و الغير.

عبد الوهاب منذ 6 سنوات

هده قراءة سطحية للموضوع اسي بوعشرين و انت تعلم دالك انت اعطيت مثلا للمواطن و لكن لما لا تعطي مثال من الناحية الجماعات و انت تعلم ان الميزانية الحالية فرضت عليهم الداخلية وضع ميزانية لهده المسائلة و قد تم رفض ميزانيات بعض الجماعات التي لم تضف هده المسائلة. يجب ان نكون منصفين هناك احكام يجب تطبيقها هدا مفروغ منه و لكن في المقابل يجب مراعات امكانيات الجماعات ادا يجب ان نبحث عن توازن بين الاحكام و الامكانيات المتاحة .

ben منذ 6 سنوات

المادة التي أحياها فريق العدالة والتنمية

مواطن حر منذ 6 سنوات

مناط هذا التعديل ليس الضرب في المرجعية الاسلامية يا صاحبس ، وإنما كما اورد صاحب المقال"البعض يدفع المال لبعض القضاة من أجل الحصول على تعويضات خيالية ضد الدولة والجماعات الترابية، لأن الأخيرة لا تدفع رشاوى،". غير اني اتفق معه على أننا يجب أن نكون أكثر إبداعا في جبر الضرر دون ظلم المستضعفين. المطلوب اقتراح حلول بديلة .. من المجتمع المدني .. أما معارضة الكارتون فلا يعول عليها ..

متابع لخيباتكم منذ 6 سنوات

هههه ما احقر هذا الاعلام ...تبارك الله عليك بدل ان تتحدث عن الاحتجاجات الشعبية والتخوين وهرطقة السياسيين ومشاكل البؤس الذي يعيشه الشعب تتحدث عن القانون ....انت اشبه بخطباء الحليب الطبيعي يوم الجمعة

ouarzazate منذ 6 سنوات

...أكتب تعليقك

ابو سلمى منذ 6 سنوات

اين قيم الاسلام يا من تدعون انكم حزب ذو مرجعية اسلامية

hassan منذ 6 سنوات

سوف نرى ردة فعل المعارضة و هل هي فعلا معارضة حقيقية ام مجرد مسرحية رذيئة الاخراج يجب اسقاط القانون في المستشارين او احالته على المجلس الدستوري و للمعارضة القدرة على فعل ذلك

morad منذ 6 سنوات

قبل شهثلاثة شهور تقدم مفوض قضائي بأمر من رئيس المحكمة الإدارية لمعاينة سجل للشواهد السكنية بمقاطعة بتمارة 9 فواجهته قائدة المقاطعة بالرفظ ولما قال لها هذا الأمر بمتابة حكم ويجب قانونيا ان تمتتلة له قالت له أنها ذات حصانة وليست كأي شخص هل يعقل أن عندنا حصانة ضد الأحكام الآن فهمت سبب تفاوتنا مع أوروبا ب50سنة

Kamal منذ 6 سنوات

هذا معناه خد ما قسمناه لك و تنازل عن حقك في التقاضي دون الحديث عن الاراضي التي تنزع من أصحابها تحت ذريعة المصلحة العامة ثم تتحول إلى مشاريع خاصة

اسكاون سعيد منذ 6 سنوات

والله في هذه البلاد من الأفضل ان يبقى المرء اميا غير قادر على قراءة مثل هذه المواضيع؛ لان كثرة قراءة مثل هذه المقالات التي تجلى فيها ظلم الدولة بقوة، ويدافع عنهامن صوت عليهم المواطن من أجل الدفاع عن حقوقهم لا يورث الا مرضا عصبيا قد يستعصي علاجه

مصطفى منذ 6 سنوات

الدولة ضربت عرض الحائط الارادة الجماعية للشعب فمابالك بنهب ممتلكات الاشخاص فردا فردا

كريم منذ 6 سنوات

الله ينورك يا صاحب كاتب هذه الكلمات

متتبعة منذ 6 سنوات

الناس المنتخبين لي صوت عليهم المواطن هم أول من يتآمر و يشرع يهضمو حقوق المواطن الله عليك يا وطن مافاءدة هده المجالس ادا كان خطاب الملك واضح لمادا هدأ التصرف من نواب ونواب العدالة بالاخص يعني ولا و تقلبوا غ على مصالحهم مبقيت فين تقترح علينا نمشيو فاهمة والو فهاد البلاد

يسار منذ 6 سنوات

الله على دولة الحق و القانون !