مذكرات رئيس حكومة استثنائي.. بنكيران وتجربة 5 سنوات من الحكم

31 مايو 2017 - 18:00

قال عن تجربته في رئاسة الحكومة إن بها أسرارا سيحملها إلى قبره، لكن بها، أيضا، محطات ومعارك وكواليس، سنحاول في هذه الحلقات من سيرة بنكيران في الحكومة الكشف عنها. في هذه الحلقة الأولى نسلط الضوء على السياق الذي دخل فيه بنكيران إلى السلطة، وطبيعة المعارك التي خاضها، وتقديم لما ينتظر القارئ خلال الحلقات المقبلة.

بنكيران.. تجربة 5 سنوات في الحكم  

هو الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بشكل يومي على مدى أكثر من ست سنوات. منذ الشرارة الأولى لما يعرف بالربيع العربي، نزع سترته وشمّر عن ساعديه وخرج إلى الواجهة مرددا: “أنا واجد.. مالك حكرتيني؟”. فإلى غاية نهاية العام 2010، كان عبدالإله بنكيران، زعيم حزب العدالة والتنمية، ينظّم صفوف حزبه ويجهّز مناضليه لمعركة كانت تبدو دفاعية في مواجهة مشروع هيمنة سياسية واضح كان يعرف لمساته الأخيرة، اصطلح عليه “مشروع تونسة المغرب”. “احتلالنا الصدارة في انتخابات 2012 لا يعني بالضرورة أن نترأس الحكومة”، قال بنكيران في حوار مع “أخبار اليوم” أواخر العام 2010. لم يكن حينها “سي عبد الإله” يعرف أن شوارع العرب على موعد مع حراك ثوري غير مسبوق منذ استقلال المنطقة عن الاستعمار الغربي. “ياك غير أنا وكان؟ أنا واجد آ سيدي”، عاد بنكيران ليقول في برنامج تلفزيوني مباشر في أبريل 2011، أي في ذروة الاحتجاجات الشعبية التي عاشها المغرب في سياق الربيع العربي.

منذ تلك اللحظة، أصبح بنكيران حكاية تستحق أن تُروى بتفاصيلها الدقيقة. فالرجل لم يخرج فقط، ليعلن نفسه مستعدا لقطف ثمار الحراك وحيازة السلطة، بل نزل إلى الميادين مجابها لوحده جموع المتظاهرين المنفلتين من أي تأطير سياسي أو حزبي، إلا مطلب الحرية والكرامة. نعم، للإصلاح لا لتهديد الاستقرار، قال بنكيران لشباب حزبه قبل غيرهم، رافضا بشكل شبه فردي أي خروج لحزب المعارضة القوي والمحتفظ بعذرية سياسية تؤهله بشكل واضح لقيادة أي حراك ثوري يعزف ألحان الربيع العربي. وبين هذه المعركة وتلك، دخل بنكيران كرقم حاسم في معادلة الوصفة التي أعدتها الدولة لإطفاء غضب الشارع والاستجابة لملف مطلبي سياسي بالدرجة الأولى، وراح يفاوض بشراسة داخل الآلية السياسية التي واكبت لجنة صياغة الدستور الجديد، منافحا عن المرجعية الإسلامية، ورافضا التأسيس لحرية العقيدة، وملتمسا التخلي عن قداسة الملك.

ظلّ منذ تلك اللحظة الخاصة في التاريخ الحديث للمغرب، في قلب الأحداث. لا يغيب إلا ليعود بحضور أكبر. اختفى عن المشهد مباشرة بعد التصويت الشعبي لصالح دستور يوليوز 2011، وفي أول حضور له جوار قبر “مؤسس” حزب العدالة والتنمية عبدالكريم الخطيب، راح يبشّر أتباعه بالحكومة. “وكما نصرنا الله من قبل سينصرنا دائما، والذين يقفون في وجوهنا يضيعون وقتهم، مثلما ضيعوا وقتهم منذ 2003… لكن الامتحانات ستختلف، وربما يكون الامتحان أصعب هذه المرة، إلا إذا رجعنا إلى المعارضة، فعلى كل حال حنا مولفين عليها”، يقول بنكيران ذات يوم من أواخر غشت 2011.

عندما كان بنكيران يوضع خارج الحسابات المباشرة لتشكيل الحكومة الجديدة أواخر مارس الماضي، كان اسمه دائما في قلب الأحداث، يتحوّل إلى هدف لأكبر تجمّع إعلامي حول شخصية واحدة على الإطلاق، حين كان يهم بالدخول إلى قاعة مركب مولاي رشيد بغابة المعمورة للمشاركة في الدورة الاستثنائية للمجلس الوطني. “بنكيران ارتاح ارتاح، سنواصل الكفاح”، ردّد جموع الأنصار القادمين من جميع أنحاء المغرب وحتى من الخارج، “بالنسبة إلى الحكومة، عبدالإله بنكيران انتهى”، يقول الزعيم وهو يعتلي منصة صغيرة تتوسّط غابة من الكاميرات وآلات التصوير والميكروفونات. منذ ذلك الحين والرجل يغيب عن الأضواء بالقدر الذي يجنّبه التشويش على رفيقه سعد الدين العثماني المكلّف بدلا منه بتشكيل الحكومة. غياب تكسره زيارات الودّ والمجاملة من محسوبين على الخصوم قبل الأنصار.

بين اللحظتين، الأولى في 2011 والثانية في 2017، قاد عبدالإله بنكيران واحدة من أكثر المراحل السياسية في تاريخ المغرب المعاصر غنى بالأحداث والوقائع. شكّل حكومته الأولى محتكما إلى ميزان قوى وشروط موضوعية سمحت له بالحد الأدنى من الطموح السياسي لتلك المرحلة، رغم رفض حزب الاتحاد الاشتراكي الالتحاق بصفوف الحكومة الخارجة من صلب الحراك الشعبي. وبعد أقل من ستة أشهر من “الهدنة” الموسومة بدهشة البدايات، بدأت قصص المعارك والدسائس والمناورات تشتعل في محيط “الرئيس”. محاولات استعادة السيطرة ومحاصرة أول تجربة حكومية بصلاحيات تتضمن الحد الأدنى الديمقراطي، تتابعت مع توالي التحولات الدولية والإقليمية التي راحت تميل إلى تحجيم المد الشعبي وتمكين الأنظمة السياسية القائمة في المنطقة العربية من استعادة الوضع السابق، تحت نيران الحروب الأهلية المندلعة من ليبيا إلى سوريا.

منذ تلك اللحظة، بات بنكيران يرتبط بظواهر سياسية واجتماعية غير مسبوقة في تاريخ المغرب المستقل، عنوانها إعطاء معنى جديد للسياسة والقدرة على جمع الحشود والالتحام معها. بنكيران هو أيضا رمز لخطّ سياسي جديد على المغرب، يقوم على عقيدة ملكية حدّ الإطناب في تأكيدها، وفي الوقت نفسه السعي إلى منح الإرادة الشعبية موطئ قدم في دائرة السلطة دون خضوع ولا “انبطاح”. أطروحة سياسية فريدة وغير مسبوقة أحدثت تعبئة شعبية واسعة، وتعززت بتأييد عدد من الوجوه ذات المصداقية في صفوف اليسار، وهو ما تجسد في عدد من الملفات والإصلاحات والمعارك التي طبعت الولاية الحكومية السابقة. معركة إصلاح نظام المقاصة ودعم المواد الأساسية، ومعركة إصلاح التقاعد، ومعركة التعيين في المناصب العليا ومعركة إصدار القوانين التنظيمية، ثم معركة انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة وما تلاها من التحاق لحزب التجمع الوطني الأحرار بصفوفها…

هذه الحلقات الرمضانية تعود إلى أبرز تلك المحطات والملفات والوقائع، تعيد تركيب أحداثها وتكشف خلفياتها وبعضا من أسرارها. حكايات يتوحد فيها السياسي بالمؤسساتي، الشخصي بالعام. الجزء الثاني من الولاية الحكومية السابق لا يخلو بدوره من ملفات وأحداث وقصص تتوقف عندها هذه الحلقات مستكملة عناصرها وخلفياتها. تحوّل حزب التجمع الوطني للأحرار من حليف إلى غريم من داخل البيت الحكومي، وانطلاق الحرب الطويلة بين بنكيران وحزب العدالة والتنمية، وخصومهم السياسيين. محطة الانتخابات المحلية للعام 2015، وما فجّرته من مفاجئات لم تخطر على بال معدي تقارير أم الوزارات والماسكين بأجهزة التحكم في الخريطة الانتخابية، وما تلاها من حرب إعلامية وسياسية شاملة تحضيرا لاستحقاقات 2016 التشريعية. ثم ما تلا استحقاقات أكتوبر الماضي من فصول مشوقة لحرب كسر العظام ووقوع المغرب في مفترق طرق بين استمرار قوس الاحتكام للإرادة الشعبية والانتخابية، وبين القطع مع هذه الفترة القصيرة من الانفتاح التي تلت الربيع العربي.

بنكيران الجالس حاليا في بيته معتكفا على “الوضوء والصلاة” كما أعلن ذلك عقب إعفائه من مهمة تشكيل الحكومة الجديدة؛ هو محور هذه الحلقات التي تروي الخلفيات التي اكتنفت هذه المحطات البارزة في عمر ولاية حكومية ليست كباقي الولايات. حكاية ستجمع أطراف المسار الطويل الذي أفضى إلى نهاية تجربة حكومية علّقت عليها آمال كبيرة، وتستعيد فصولها الكاملة، وشخوصها الأساسيين، وكواليسها. سنحكي قصة رجل لا يبقي أحدا في موقف الحياد، يُضحك ويبكي، يتهجّد ويغني، ينهر ويحني. عبدالإله بنكيران، أول سياسي مغربي يخرج إلى الناس بوجه الإنسان، أدخل العالم إلى تفاصيل حياته الصغيرة، واستضاف الرأي العام على مائدة طعامه، في صالونه، غرفة نومه. هو أول سياسي مغربي يتحدّث بصيغة “أنا”، ونصب عدسة غير مرئية ترصد حركاته وسكناته لتنقلها إلى العلن، والنتيجة كانت هذا الشريط المطول الذي تابعه المغاربة طيلة السنوات الست الماضية.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *