الاستحقاقات

28 ديسمبر 2017 - 15:30

إذا كانت ثمة من إجماعات في المغرب، فواحد منها إجماع على اختلال العملية الانتخابية التي أصبحت توصل الكثير من الأراذل إلى المجالس والمؤسسات الدستورية. والسؤال الاستنكاري الذي يطرحه الكثير من المغاربة عقب كل انتخابات هو: نحن لا نستحق أغلب الذين يمثلوننا وهم لا يستحقون أصواتنا، فمن أعطاهم الحق في تمثيلنا والحديث نيابة عنا؟
لذلك يبدو لي أحيانا أن من اختار كلمة “استحقاق” مرادفا للانتخابات، فعل ذلك قصدا، بل نكاية في المغاربة وكأنه يقول لهم: تريدون الديمقراطية التمثيلية، ها هو “سهمكم”، وها ما تستحقون.
التقارير الصادرة مؤخرا عن المجلس الأعلى للحسابات، وخصوصا التقرير المتعلق بحسابات المترشحين لانتخابات 2015، تقول حقيقة واحدة، وهي أن التنافس بين الأحزاب وممثليها لم يعد في البرامج، بل في الأموال والنفقات، وأن “الشكارة” هي برنامج من لا برنامج له.
طبعا، نحن لا نتحدث هنا عن المال الحرام الذي يُعطى تحت جنح الظلام لشراء الضمائر وتسكين آلام الفقراء خلال كل 15 يوما من الحملات الانتخابية، بل نتحدث عن المال الذي صرح به المرشحون أنفسهم، والذي يتجاوز بكثير حجم الدعم العمومي المرصود للحملات الانتخابية.
حوالي 19 مليارا (187 مليون درهم بالتحديد)، هو مجموع النفقات التي صرح بها وكلاء اللوائح في الانتخابات الجماعية لسنة 2015. التقرير الذي وقع عليه إدريس جطو، وليس عبدالإله بنكيران أو نبيلة منيب، حابل بالأرقام المفارقة، سنأخذ منها واحدا يقول إن المدن التي تعرف نظام وحدة المدينة، والتي فاز العدالة والتنمية بجميع مجالسها وبفارق واضح في الأصوات، شهدت إنفاقا ذاتيا من طرف مرشحي حزبي الأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار يتجاوز ما أنفقه مرشحو البيجيدي!
هذا ما صرح به وكلاء اللوائح، أما ما خفي من مال حرام، فيعلمه الله كما يعلمه من يريدون لدار لقمان الانتخابية أن تبقى على هذا الحال، لأن المنافسة الشفافة والانتخابات الخالية من محترفي الانتخابات الفاسدين، لن تأتي سوى بطوفان جارف من “الخوانجية”، كما لم يكن ممكنا أن تأتي في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات إلا بطوفان من اليساريين. الفساد أو الطوفان. هذا هو منطق مهندسي الانتخابات في المغرب.
إن مركب السلطة ومحترفي الانتخابات (الفساد + السخرة الإدارية) لا ينحسر أثره في إفساد السياسة وتعطيل الديمقراطية فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى إضعاف النخب وتهجين الثقافة وترييف المدن، وهذا هو الأخطر. ولنأخذ كمثال مدينتي فاس وتطوان، اللتين كانتا في فجر وضحى الاستقلال أكبر مشتلين للوطنية والعلم والثقافة، وكيف أصبحتا بفعل المجالس المنتخبة، المشكلة من مهربي السلع وتجار المخدرات، إلى بؤر للتطرف والجريمة. كما أن مدينة مثل العرائش، تحولت، في وقت قياسي، من مدينة صغيرة ومنسجمة ديمغرافيا وعمرانيا، إلى مدينة متوسطة يقطن أزيد من 60 في المائة من سكانها الطارئين مع كل انتخابات، دور الصفيح. هذا كله وغيره بفعل “الاستحقاقات”.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي