شهر «التبرگيگ»!

22 مايو 2018 - 13:25

كلما حل رمضان، تظهر فئة طارئة من « المؤمنين »، يتنافسون في إشهار ما في قلوبهم من خشوع، يلبسون فوقية بيضاء وينزلون إلى المسجد لمزاحمة المصلين المواظبين، ورغم أن كثيرا منهم لم يسبق له أن حط جبهته على الأرض، فإنهم لا يكتفون بالتعبد والتجهد، بل يسدون النصح والموعظة للآخرين، حول طريقة الصلاة والوضوء، والقيام والصيام، وعدد النوافل والركعات، ولا يجدون حرجا في التحول إلى تُقاة دعاة يفتون في الدين، ويقولون لك إن الصلاة بالبسط « لا تجوز » و »فرق الصيام » بالعصير مكروه… وفتاوى من هذا القبيل. يخترعون لأنفسهم حياة روحية، تنتهي في اليوم الموالي لعيد الفطر.

المغاربة يسمون هؤلاء المصلين المناسباتيين بـ »عبّادين رمضان » أو »عبّادين لحريرة »، لأن شعلة الإيمان في قلوبهم تنطفئ مع آخر « زلافة ديال الحريرة » يدلقونها في بطونهم، ويتوقفون بعدها عن العبادات الرمضانية، كي يستأنفوا « نشاطهم » العادي، الذي دأبوا على ممارسته بقية العام. وكثير ممن لا يتذكرون الدين إلا عندما يريدون شتم شخص تخاصموا معه، يتحولون إلى ما يشبه كتيبة من شرطة « الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر »، يقضون وقتهم في « التبرگيك »، وانتقاد عباد الله، والتدخل في شؤونهم، خصوصا النساء: « هادي دايرة الريحة، هادي طالية الماكياج، هادي لابسة قصير »… إنها « رياضة شعبية » يمارسها الكبار في هذا الشهر الفضيل، ويتعلمها الصغار في مجتمع ذكوري يراقب النساء ويقيد حريتهن، ويعلّم الأولاد ممارسة العنف ضدهن في وقت مبكّر. أذكر أننا حين كنا صغارا، كنا نشن حربا ضروسا على الفتيات « المتبرجات » في رمضان. بمجرد ما يتأكد ثبوت الهلال، نتحول إلى « ميليشيات آداب » تجوب أطراف المدينة، سلاحنا « جبّاد » من « لاستيك » وذخيرتنا قطع سلكية مسمومة، نصنعها من أسلاك الدفاتر.

كنا نصوب « الجباد » في اتجاه سيقان الفتيات اللواتي يلبسن تنورات قصيرة، الضربات لاسعة تجعل الساق تنزف. ننفذ عملياتنا  ونهرب كأي إرهابيين صغار. كنا أطفالا، وكانت ألعابنا أقرب إلى « عالم الجريمة » منها إلى اللهو البريء، وعندما كبرنا أصبحنا نعتقد أننا نملك حق التدخل في شؤون الآخرين، باسم الدين والأخلاق والعادات المُفترى عليها.

حتى أماكن الصلاة لم تكن تسلم من حماقاتنا. كأي « عبّادين رمضان » واعدين، كنا نذهب إلى المسجد كي نجمع أقصى ما يمكن من الحسنات لعلها تذهب السيئات التي راكمنا طوال العام. لكن الطبع يغلب التطبع. ننتظر أحدنا حتى يسجد وننزل عليه بصفعة على « القرفادة »، ثم نهرب ضاحكين.

في البيت، عندما كان الواحد منا يصلي، يتعمد أخوه المشي أمامه كي يجعله يعيد الركعات من جديد أو يحاول أن يُضحكه، عندما يفشل يهوي على رأسه بوسادة أثناء السجود.

السجود الذي كنا نحرص أن يكون طويلا، ليس فقط، كي نستريح من تعب الركعات، بل لأن الدعاء يكون مستجابا خلاله أكثر من أي وضعية أخرى. لم نترك أي نوع من الحلويات لم نطلبه من « الواحد القهار »: « فالدا »، « جاباح »، « بازوكا »، « هالس »، بيمو »، « هنريس »… كنا نحول الله سبحانه وتعالى إلى « بائع حلوى ».

نطلب منه، أيضا، أن يحقق لنا بعض الأمنيات « الكلاسيكية » مثل النجاح في الامتحان، وأخرى سرية، كأن تتهدم المدرسة أو يموت المعلم كي نصبح في عطلة أو يشتري لنا الوالد دراجة أو نعثر على درهم مباشرة بعد الانتهاء من الصلاة أو تكون ملابس العيد مناسِبة لأحلامنا… دعوات « انتهازية » نحاول أن نردد أكبر عدد منها في كل سجدة، رغم أنها لا تتحقق.

دعوة واحدة تحققت لكل أبناء ذلك الجيل وندمنا عليها فيما بعد هي: أن نكبر بسرعة… ها قد كبرنا، ورحم الله فرويد الذي قال: « الطفل أبو الرجل »!

رمضان مناسبة كي يربط الإنسان اتصالا مباشرا مع السماء، ويقرأ القرآن ويتأمل الملكوت، ويُقلع عن العادات السيئة، ويسافر عميقا في روحه، كي يسمو فوق كل التفاهات، ويهتم بنفسه ولا يعطي دروسا لأحد، لكننا حولناه إلى علاقة مرَضية مع الأكل والشرب، ومراقبة تصرفات الآخرين، وبدل أن نهذب أرواحنا ونروض نزواتنا، نتفرغ لـ »التبرگيك » و »الحضيان » و »تافضوليت »!

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي