يكثر الحديث عن المهن المهددة جراء التقدم التكنولوجي الذي سيحولها إلى مهن آلية بصفة كاملة، وسيقضي على حاجيات كانت ترافقها. هكذا يبدو من المرجح بقوة أن مهاما تتكلف بها اليوم الكاتبات الإداريات أو عمال سلاسل التركيب ستصبح مهاما آلية (مُأتمة)، وسيأتي يوم لن نكون فيه بحاجة إلى سعاة بريد لتوصيل رسائلنا، وموظفين بالشبابيك البنكية أو المحطات.
وإذا كان من الضروري الاستعداد اليوم لإعادة التوجيه الوظيفي للأشخاص الذين يتولون اليوم مثل هذه المهام، فإن اختفاء هذه المهام لا يمثل في ذاته تهديدا لمجتمعاتنا.
بالمقابل، قلّما نتحدث عن مهن أخرى تعد بدورها مهددة بالزحف التكنولوجي والتي من الضروري حماية وجودها، بل وتحسين أوضاعها وأجورها، لأنها تشكل وسائل بقاء حضارتنا.
ووفقا لترتيب تصاعدي لحجم التهديد المطروح، تتدرج هذه المهن بين تلك الخاصة بحماية الطفولة فالطبيعة، ثم الحريات:
- مهن حماية الطفولة (سواء أكانت في المجال الطبي أو البيداغوجي) لا تبدو مهددة إلى حدود هذه اللحظة، لكنها مهددة في كثير من دول العالم وحتى في فرنسا. لأنها تتطلب وسائل تتزايد باستمرار وتمول في غالبيتها من الضرائب التي يصعب رفعها يوم بعد آخر. وحتى إن أحرزنا تقدما تقنيا للمساعدة على أداء هذه المهام، فلن يعوض أبدا وجود حضور إنساني من أجل التطبيب أو التعليم. لذا تجب حماية هذا الصنف من المهن، وبصفة خاصة، تعزيز وسائل الطب في الفترة السابقة للولادة وبالتعليم التمهيدي والحضانات، بما في ذلك الأشخاص المختلفين، والذين نسميهم خطأ بالـ »معاقين ».
- مهن حماية الطبيعة: حتى إذا كان الحديث عن حماية الطبيعة أقوى اليوم من أي وقت مضى، فالأشخاص المكلفون بالقيام بذلك في تناقص. وحين ستنتقل كامل الإنسانية تقريبا للعيش في المدينة، حين ستُهجر كافة مناطقنا القروية ودواويرنا ولن يعود هناك شخص يريد أن يعمل فلاحا أو يعيش بعيدا عن المراكز الكبرى، كيف سنترجم الأقوال الجميلة عن أهمية حماية الطبيعة إلى واقع؟ لذا من الأساسي العمل على تثمين المناطق القروية والمهن المرتبطة بها.
- مهن حماية الحريات: (المحامون، القضاة، الصحافيون، أساتذة الآداب والتاريخ والفلسفة) هذه المهن أكثر تهديدا من الصنفين الآخرين. مهن الحقوق مهددة بأتمتة القضاء. مهن الصحافة مهددة بكتابة الأخبار من طرف خوارزميات رقمية ذكية. أساتذة الآداب مهددون لأنه سينظر إليهم على أنهم أقل فاعلية وعملية، فيما أن وجودهم ضروري من أجل وضع كل مبادرة في سياق أخلاقي ولأنه سيصبح من الضروري أكثر معرفة كيفية التفكير في الحرية والمعاناة والموت وبصفة عامة في الشرط الإنساني ووضعه في الطبيعة. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء فئة الفنانين: (الكوميديون والموسيقيون والتشكيليون)، الذين قد تدعي خوارزميات ذكية إمكانية تعويضهم.
حين يريد مجتمع وضع نهاية لسلطة معينة، يبدأ بإفقار من يمثلها، ولذا، يبدأ، بكل وقاحة، بحمل نساء على ممارسة هذه المهن ممن يسهل استغلالهن. وهذا ما يحدث اليوم، لهذه الأصناف الثلاثة من المهن. ثم يقوم في مرحلة لاحقة بالتشكيك فيها، وهذا ما يقع اليوم مع من يدافعون عن الحريات. ومن الممكن أن يحصل للصنفين الآخرين.
إذا لم ننتبه إلى ما يحدث ستدفع مجتمعاتنا ثمنا غاليا جراء ذلك. وستنجو إذا عرفت كيف تدافع عن هذه المهن وتثمنها وتنهض بها، وهو ما كان عليه الحال منذ فجر الخليقة.
ترجمة: محمد حجي محمد