لنحصر هذا الزمن في 30 سنة. ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) ونهاية حرب الفيتنام (1975)؛ حين ظهرت فورة شبابية متعددة الأصوات والأشكال، ما يجمعها هو رفضها نمط الحياة البورجوازي، ومركزية الحضارة الغربية، والحروب…
ومن جيل البيت (Beat Generation) إلى الثورة الطلابية لـ »ماي 1968″، مرورا بتجربة الـ » Hippie »، كانت أوروبا وأمريكا تسير بخطوتين، خطوة نحو البناء والتوسع وخوض حروب ساخنة وأخرى باردة، وخطوة ترفض وتنتقد وتصرخ: « مارسوا الحب لا الحرب ».
هنا أطل شارل أزنافور. وعندما غنى بوهيميته في 1965، فعل ذلك في باريس المحتقنة، بحر تلك السنة، بأحداث من قبيل اغتيال المهدي بنبركة، وصدمة عودة الجنرال دوغول إلى الإيليزيه.. فكان أزنافور كمن يقول للشباب الفرنسي الذي سيفجر ثورته الطلابية بعد ثلاث سنوات: أنظروا كيف كنا نعيش الفقر والسعادة: « أحدثكم عن زمن، من هم أقل من عشرين سنة، لا يعرفون عنه أي شيء. كان حي مونتمارتر يعلق زهوره الليلكية تحت نوافذ غرفتنا البسيطة، وكنت أتضور جوعا وأنا أرسمكِ عارية. البوهيمية تعني أننا كنا سعداء. البوهيمية هي أننا لم نكن نأكل سوى مرة كل يومين ».
في هذه الفترة، كان المغرب يغلي بالأحداث السياسية والاجتماعية: انتفاضة 23 مارس 1965، وحالة الاستثناء في يونيو من السنة ذاتها. والأحداث الثقافية: من ظهور مجلة « أنفاس » بنفسِها النقدي الحداثي في 1966، إلى تأسيس فرقة ناس الغيوان في 1970… وكانت كل الأشكال الفنية والتعبيرية، من مسرح وأدب وتشكيل، تحاول أن تواكب التحولات الكبرى التي شهدها المغرب بعد أربع سنوات على حكم الحسن الثاني، باستثناء الموسيقى التي بقيت هي الشكل التعبيري الوحيد الذي عرف تغييرا دون تغيير، بحيث أن المظهر المتمرد الذي ظهر به ناس الغيوان، وبعدهم كل فرق الجيل (على مستوى الملبس أو الآلات الموسيقية) لم يشمل مضامين الأغاني التي بقيت غارقة في بناء تراثي وخطاب قدري.
لقد كان الحسن الثاني يعرف أن الموسيقى هي الفن الأقدر على تحريك شعب غارق في الجهل والأمية، لذلك حرص، بشكل شخصي، على مواكبة ومراقبة المغنين والملحنين وكتاب الكلمات، وكان يرفض أي إقحام للموسيقى في السياسة، أو حتى تطويرها في اتجاه فني لا يعجبه كما حدث مع فعل مع لحسن زينون الذي هدده بخنجره. وقليلون هم الذين يعرفون القصة المأساوية للباحث الموسيقي الكبير، محمد الرايسي، الذي كان يشغل منصب رئيس قسم الموسيقية بوزارة الثقافة، ونائب الأمين العام للمجمع العربي للموسيقى.
فعندما قاد الرايسي حملة توقيعات عربية للتنديد باعتقال الشيخ إمام وفؤاد نجم بمصر، واختار كتابة مقالات حول الموسيقى بجريدة « أنوال »، ولحن- على منوال جاك بريل وإيديت بياف وشارل أزناُف
ور- قصائد لشعراء حداثيين، لم تر النور، فتم إبعاده من مهامه وأوقف راتبه لمدة سنة، فأصيبت زوجته، أستاذة البيانو، بمرض عقلي وتفككت أسرته. وبعد سنة من المعاناة تم تعيينه مفتشا – دون تفتيش- بالمعاهد الموسيقية، فبقي على ذلك الحال إلى أن توفي عن عمر 48 سنة، وهو يقرأ الجريدة في المقهى. شارل أزنافور، بدوره لم يسلم من مراقبة ومنع أغانية الجريئة، من طرف لجان الأخلاق في الراديو والتلفزيون الرسمي، مثلما حدث مع » Après l’amour »، لكنه كان يجد مسارح فرنسا والعالم مفتوحة في وجهه. وقد عاش سنواته الـ94، حتى آخر رمق، وهو يعبر عن قناعاته ويصرف مواقفه التي تشربها وهو طفل رفقة والديه المهاجرين الأرمينيين، منذ كان منزلهما في باريس يأوي الشيوعيين واليهود الفارين من جحيم النازية، وإلى أن اختار الغناء بالأمازيغية. وداعا أزنافور.