لست أدري لماذا أميل إلى اعتبار وصف انتخاب رئيس مجلس المستشارين بالعبث بكونه اجترارا واستنساخا، وتعبيرا عن ضعف الخيال السياسي في الفهم الدقيق للظاهرة، فالمشهد العبثي إذا تكرر بنفس الصورة والعناصر والتكتيكات، لا بد أن يحرك الخيال السياسي لتجاوز التوصيف لما هو أبعد.
الروتين التحليلي، يدفعك مرة ثانية وثالثة، إلى تتبع أثر المواقف، وانعكاسها على صورة الأغلبية الحكومية، والانخراط في اصطفاف ثنائي، يدفع طرفه الأول لإدانة سلوك حزب يقود الحكومة بحجة استفراده بترشيح لم يتم الاتفاق عليه في لقاء الأغلبية، ويدفع طرفه الثاني إلى مساءلة الحقل السياسي المغربي الذي لم يتوقف إلى الآن، عن إعطاء إشارات سلبية عن طبيعة الممارسة الديمقراطية التي ينتجها النموذج المغربي، والذي يجعل الأغلبية تقوم بوظيفة معاكسة، ويجعل العلاقات بين الأغلبية والمعارضة غير طبيعية.
الروتين التحليلي، يقتل الخيال السياسي، إذ يرهنه بأسئلة ما بعد انتخاب حكيم بنشماش، وأثر ذلك على الأغلبية، وهل ينتفض العدالة والتنمية أم ينتفض حزب عزيز أخنوش وجنوده؟
التحليل العميق للمشهد يتجاوز توصيف لعبة التكتيكات، أو حتى الإشارات التي تفضح الممارسة الديمقراطية في المغرب، فالواقع اليوم، لا يحتاج إلى أن يقدر طبيعة التكتيكات الحزبية المتوقعة بعد عملية الانتخاب، وحجمها وقوتها ومدى قدرتها على مواجهة العناصر المربكة، بل لم يعد يكترث بحجم الانتقاد للعبث والتيه السياسي الذي تجسده هذه الممارسات، فوعي الرأي العام بهذه الخريطة وآليات اشتغالها تجاوز وعي النخب نفسها، ودليل ذلك أن مجمل الخطاب اليوم، رسميا كان أم حزبيا ، يدور حول كسب الثقة المفقودة، واستقطاب النخب المحبطة من العملية السياسية برمتها.
في التجربة السياسية المغربية، كان التوازن السياسي ولايزال أطروحة الدولة في إدارة الحقل السياسي، وكانت التعددية السياسية والثقافية وحتى اللغوية، عنوانها ومدخلها في تبرير هذه الأطروحة.
اشتغلت الإدارة لتثبيت أطروحة التوازن بالأحزاب والجمعيات، واخترقت النقابات، ووظفت الإعلام العمومي وغير العمومي، ثم أنشأت المؤسسات، بما في ذلك الدستورية، لرعاية هذا الدور، وغيرت الهيكلة التشريعية والمؤسسية أيضا، لهذا الغرض، وأخرجت بدافع من الأطروحة نفسها مؤسسات ووظائف من البناء الحكومي. والنتيجة أن التوازن السياسي لم يتحقق بشكل طبيعي، وهو إلى اللحظة يحتاج إلى تكتيكات قسرية غير طبيعية تجعل المواطن كل مرة يشعر بحلقة جديدة من حلقات العبث السياسي.
التحليل العميق للظاهرة اليوم، أن المغرب يوجد أمام معضلة إصلاح السياسة، والتي لا يتصور حلها من غير طريقين:
الأول هو طريق التفكير بجدية في إعادة صياغة التوازن على معطيات طبيعية وواقعية، بما يعني ذلك الاعتقاد بقوة الطبيعة السياسية في المغرب، وأن التعدد موجود فيها، إن تم رفع اليد عن الأحزاب وتركها لنفسها، تبني ذاتها، وتصحح مساراتها، وتسترجع نخبها المغادرة، وأن الهيمنة شيء وهمي، تختلقه النخب المستفيدة لتبرير الدفاع عن أحزاب مصطنعة قاتلة للسياسة مغذية للعبث، صانعة للفراغ، مهجرة للنخب، موسعة لثقافة للإحباط واليأس.
الثاني، هو طريق إعادة النظر بشكل كامل في أطروحة التوازن، وطرح سؤال الجدوى منها، لا سيما والمغرب تجاوز لحظة الصراع على المشروعية، ويعيش في الرهان الحالي أفضل حالات الالتفاف حول الإجماع، وأن الشرعية اليوم تتعزز بالإصلاح، والنخب القادرة على مساعدة الملك على إدراكه وتحقيقه، وليس بالتكتيكات التي تقهرها، لتبرر استفراد النخب المستفيدة بالامتيازات، وصناعة شروط المساس بالإجماع أو وضعه في دائرة المساءلة والاحتكاك المباشر.
خلاصة الموقف، من رصد ظاهرة انتخاب رئيس مجلس المستشارين، أن القضية تتجاوز نقد العبث إلى ما هو أكبر منه، مما يتعلق بوضع معادلة السياسة في المغرب، برمتها، في دائرة التساؤل.