صناعة المعارضين

11 يناير 2019 - 14:10

ثمة ظاهرة في السياسة لم تحظ بالقدر الكافي من التأمل، وهي أن عددا معتبرا من السياسيين أو الكتاب أو المثقفين أو الصحافيين، انطلقوا في مسارهم معتدلين، ثم ما لبثوا أن تحولوا إلى مربع المعارضة الجذرية.
الطبيعي والأكثر حصولا، أن يقع التحول من الراديكالية إلى الاعتدال، وحتى الذين يتوسع عندهم الشك، حين يستأنسون بتجربة الاندماج، يصعب عليهم الخروج من مربع الاعتدال، وفي أحسن أحوالهم، يبتعدون عن السياسة، إلى الفكر أو إلى العمل المدني.
كثيرٌ هم المحبطون من المثقفين الذين غادروا السياسة إلى الفكر، وكانت أفكارهم تدخل دائرة الإزعاج في مربع السياسة، رغم نأيهم عن حقلها، لكن هؤلاء، أمثال الجابري أو العروي أو سبيلا، وجدوا الملاذ الفكري الذي أخرجهم من جو الإحباط، وكانوا يملكون القدرة كل حين على أن يجلعوا أفكارهم ملهمة للسياسة.
الإعلاميون المحبطون من التجربة، بعد أن شارك بعضهم بحماس في دعم التجربة، انتهى الأمر برموز منهم إلى هجرة الوطن، وتحولوا إلى معارضين للدولة، بعدما كانوا يحلمون أن يكونوا ضمير الانتقال الديمقراطي.
السياسيون، ينتهي بهم المسار لأحد مصيرين، هجرة السياسة بدافع من الأخلاق والمصداقية، أو السقوط، فيما كانوا يعيبون عليه خصومهم، بعدما يكتشفوا أنهم لم يكسبوا من السياسة سوى ضياع فرص في الحياة، فيحاولون الاستدراك بشره كبير.
الكل، أو الغالبية، مجمع أن المشهد الفكري والإعلامي والسياسي ضاق بالشرفاء، وغص بالانتهازيين المنتفعين، لكن أحدا لا يسأل عن تفسير لهذه الظاهرة التي زحفت على كل المناشط المؤثرة في السياسة.
ما الذي يجعل من شباب أكفاء في مجال الإعلام حاولوا بحماستهم أن يكونوا شركاء في صناعة تجربة ديمقراطية ناشئة، يتحولون إلى معارضين شرسين للدولة؟ وما الذي يجعل مثقفين ومفكرين، كان العالم العربي يحلم باحتضانهم في الصالونات الرسمية وغير الرسمية، ينتهي بهم المطاف في بلادهم إلى هجرة السياسة والاغتراب بمحراب الفكر؟ وما الذي يجعل سياسيين، كانت الدولة تستعين بخدماتهم في مواجهة خصومهم، وأيضا في الاستدلال على جدية النموذج، ينتهي بهم المطاف إلى الشك في الأمل، وهجرة السياسة؟
ليس هناك تفسير خارج منطق الصناعة التي يمارسها التحكم حتى وهو لا يدري تبعات ذلك.
هل يتصور البعض أن التحكم في الإعلام يمكن أن يحصل فقط، بشراء «كتبة» يفعلون ما يُؤمرون، ومستعدون لبيع كل شيء في سبيل الدفع؟
«الكتبة» مهما تأنقوا في العبارة، وبرعوا في اللؤم ضد الخصوم، فهم غير مقنعين في نظر «التحكم»، مادام أصحاب الضمائر يتكلمون ويعبرون.
والمثقفون المسخرون، مهما أنتجوا من الفذلكات والتقليعات، فهم دائما مجرد «خدم»، لا يقنعون، مادام هناك مثقف عضوي، يفكك خطاب «التحكم» ويكشف مخاطره على النموذج.
والسياسون الحرفيون، الذين يلقنون، ثم يدعون إلى التصويت فيصوتون، لا يقنعون هم أيضا، لأن السياسة ليست دائما هي الصراع مع المخالفين الشرفاء، ولكنها، أيضا، الدفاع عن مصالح البلاد العليا.
يحدث الفرز بشكل كبير في المنتديات الدولية، حيث يتداعى خصوم الوطن لضرب مصالحه. «الكتبة» و»الخدم من المثقفين» و»السياسيون الحرفيون»، يغادرون المنتديات للتسوق و»التمتع» بالحياة بمال الدولة، والشرفاء الذين تُخاض ضدهم المعارك لتحويلهم إلى معارضين ضدا عنهم، يتجلدون في الدفاع عن وطنهم، ولا تأخذهم حمية الانتقام بمخالفيهم الذين خذلوهم.
شهية التحكم كبيرة، لا تقنع بـ»الكتبة» ولا بـ»الخدم» من المثقفين والمفكرين، ولا بـ»المسخرين» من السياسيين، إنها تريد التهام كل شيء وإسكات الجميع، والقضاء على الأمل، وتحويل المتحمسين الذين كانوا يأملون أن يكونوا شركاء في صناعة الوطن إلى معارضين للدولة.
أدخل في تمرين تأملي، وأقول، لو أن التحكم نجح في أن يحول الجميع إلى «كتبة» و»خدم» و»مسخرين»، من يقوى غدا على الدفاع عن مصالح الوطن؟
ثم أدخلُ في تمرين تأملي مقابل، وأقول، لو أن التحكم، بصناعته، دفع المعتدلين إلى الخروج للتطرف، من يقوى على صناعة الأمل، وحماية الإجماع؟

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي