الحقيقة والاستنتاج اللذان خرجت بهما بعد استماعي إلى شريطي عبد الإله بنكيران الأخيرين، هما أن الخطاب السياسي التقليدي للعدالة والتنمية، والذي يعتبر بنكيران أبرز مدافع عنه، بلغ نهايته، ودخل في عملية تدوير Recyclage سياسي تحدث، عادة، لكل التجارب السياسية التي تصل إلى عنق الزجاجة.
أولا، الحقيقة التي خرجت بها، أكدتها تعليقات الفايسبوك التي جاءت، في أغلبها، سلبية، مهاجمة ومنتقدة وساخرة من خطاب بنكيران. ثانيا، الاستنتاج الذي توصلت إليه، دعمه، بالأساس، إقدام بنكيران على خلق خصم جديد متمثل في دعاة الملكية البرلمانية، وهذا ليس مرده إلى أن بنكيران يرى في أحزاب فدرالية اليسار منافسا جديدا وشرسا لحزبه ومشروعه، كما كان الأمر بالنسبة إلى حزب الأصالة والمعاصرة والجهة التي كانت تقف وراءه، بل لأنه رأى أن أفق حزبه، وهو يتطور ويحتك بالقوى الحية في المجتمع، لن يصل سوى إلى إعادة إنتاج وتطوير خطاب اليسار الديمقراطي، أساسا في فكرتي الملكية البرلمانية والحريات الفردية، ويمكن هنا أن نستحضر موقف عبد العلي حامي الدين وآمنة ماء العينين من شكل الملكية الحالي، ومن مسألة الحرية، وهما شخصان لهما تأثير كبير على نخب الحزب المثقفة وشبيبته. هذا –بالتأكيد- يؤرق بنكيران، المحافظ سياسيا، لذلك تجده في طليعة من يؤازر حامي الدين وماء العينين، دون أن يتوقف عن انتقاد خطابهما، والتحذير من مغبة انتشاره داخل العدالة والتنمية.
إن خوف بنكيران من تغلغل روح 20 فبراير داخل العدالة والتنمية أسقطه في خلط فظيع، وهو يعي عدم صحته، حين رفع في وجه شباب حزبه فزاعة اليسار الذي يريد أن ينزع الحكم عن الملك، وجمع في سلة واحدة ما لا يُجمع: «محمد اليازغي الذي كان يريد حل العدالة والتنمية، والطلبة للي قتلو لينا الشاب الحسناوي في فاس، واليسار للي باع الماتش»، بالرغم من أن هؤلاء جميعهم لم يسبق أن دافعوا عن الملكية البرلمانية، بل فيهم من قال للحسن الثاني إن «أفكار جلالتكم هي دستورنا»، وأقصد اليازغي، وفيهم من اعتبر أن الأمور لن تستقيم في المغرب إلا بزوال الملكية، وأقصد فصيل الطلبة المتهمين بقتل الطالب الحسناوي، ومنهم من أصبح جزءا من النظام، وانخرط في مواجهة اليسار الديمقراطي، والتضييق على منظماته الحقوقية، وأقصد يساريي البام والاتحاد الاشتراكي.
لقد كان حريا ببنكيران، على الأقل، ألا يسيء الظن بدعاة الملكية البرلمانية، وبالخصوص أحزاب فدرالية اليسار الديمقراطي، ويعترف لهم بأنهم، برفعهم شعار «ملكية تسود ولا تحكم»، يجنبون المؤسسة الملكية ما يترتب على تنفيذ السياسات العمومية من محاسبة الشارع إياها، وهذا أمر بات منظورا بشكل يومي. وأنهم بذلك يجعلون منها مؤسسة من مؤسسات الدولة، وليس بنية مخزنية سلطانية معيقة للديمقراطية.
لقد ساهم بنكيران في تعميق الهوة بين الإسلاميين واليسار الديمقراطي، عندما أشار إلى أن دعاة الملكية البرلمانية خطيرون وحرايفية وخصوم للدولة.. وكان، في الغالب، يصدر عن موقف انفعالي من انخراط بعض اليساريين في الحملة ضد حامي الدين، أو انسياق نبيلة منيب، مع صحافة التشهير، في مهاجمة آمنة ماء العينين، وهذا شبيه بموقف انفعالي سابق له هاجم فيه كريم التازي، بالقول: «الذي فشل في تدبير مجلة لا يمكن أن ينتقد الحكومة». إن بنكيران، وهو يهاجم دعاة الملكية البرلمانية، يكون ملكيا أكثر من الملك، خصوصا أنه لا يخفى عليه أن الدولة طلبت من أحد الفاعلين الاقتصاديين المعروفين الالتحاق بفدرالية اليسار. فهل كانت الدولة ستفعل ذلك لو أن أحزاب الفدرالية تشكل خطرا عليها؟
لقد كان مفهوما –نسبيا- أن يُقدِّم بنكيران إرادة مركز السلطة على الإرادة الشعبية، عندما كان، وهو رئيس للحكومة، يدير بحذاقة لعبة رفع الملك عن ممارسات محيطه، وهي لعبة لم يسبقه إليها أي وزير أول أو رئيس حكومة، لكن أن يستمر في هذه اللعبة وهو متقاعد في بيته، مع استبدال الخصم السابق (البام) بخصم جديد هو اليسار الديمقراطي، فهذا أمر لن يقبل به كثير من جمهوره من داخل الحزب ومن خارجه.
لقد حدد بنكيران، منذ بداية الثمانينات، طريقة تعامله مع مركز السلطة، بناءً على وصية سيدة مسنة كان قد التقاها في الحج، وخيرته بين انتقاد الملك واستمرار علاقته بها؛ حيث أصبح يعتبر، استنادا إلى تلك الوصية، أن أي تفاوض مع مركز السلطة على الإصلاح، دون خضوع مطلق لإرادة هذا المركز، من المحرمات السياسية التي تتسبب في تخلي الشعب عن أي قيادة سياسية تقوم بذلك، كما نبهته إلى ذلك السيدة المسنة.