جني الشرف من الضرورة!

28 يناير 2019 - 13:54

أثار موضوع المعاش الاستثنائي لرئيس الحكومة السابق عبدالإله بنكيران وخرجاته في الفضاء الأزرق، «نقاشا» واسعا وسط «الرأي العام»، وهي حالة توضح حجم الفراغ والخواء الذي تعاني منه بلادنا، إذ بالرغم من وجود مؤسسات وأحزاب ونقابات وحكومة وبرلمان وقضايا كثيرة معلقة منها الديمقراطية، الحريات، التعليم، الصحة، المديونية، الأمازيغية، البطالة، الفقر، حجم الاقتصاد وطبيعته، الفوارق الطبقية والمجالية…، فإن مسامرات رجل يجلس في بيته بحي الليمون بالعاصمة، لا يتحمل أي مسؤولية سياسية رسمية أو حزبية، تبقى هي ما يتم التعامل معها كحدث سياسي وإعلامي يستحق كل هذا «البوليميك»، الذي يتم اجتراره دون قدرة على النفاذ إلى القضايا الرئيسة والجوهرية. ربما، قد يكون ذلك ضروريا لحجب الأنظار عن القضايا التي تهم حاضر ومستقبل المغاربة، بشكل يتجاوز كليا حالة شخص واحد، مهما كانت أهميته أو أهمية المواضيع التي يثيرها، فإنها لا يجب أن تحجبُ التعاطي مع الواقع الذي تعرفه البلاد.

واهمٌ من يعتقد أن منطق الدولة يقتضي القضاء على حزب العدالة والتنمية في هذه المرحلة، فإذا كان الحزب استفاد انتخابيا من المرحلة السابقة، فإن الدولة كسبت سياسيا أضعافا مضاعفة، يكفي أننا البلد الوحيد في المنطقة الذي يسمح باستمرار «الإسلام السياسي» ممثلا في حزب العدالة والتنمية في الوجود في صدارة المشهد الحكومي والانتخابي؛ عكس ما جرى في بلدان أخرى وبتكلفة عالية، كما أن الدولة تكسب يوميا من عزل بنية حزبية في كامل عنفوانها عن الانخراط في الديناميات الاجتماعية والاحتجاجية التي تظهر هنا وهناك وشغلها بدل ذلك، بمعارك صغيرة، فاستنزاف الأحزاب وإضعاف مصداقيتها، وهي في مواقع المسؤولية الحكومية، يتم عادة، بكلفة أقل مقارنة بوجودها في المعارضة، ورغم ما يتم تحضيره لانتخابات 2021 بأجواء ومنطق يغلب عليه التضييق على «الإسلاميين»، فإنه لا يجب أن نستبعد استمرار رغبة إشراك حزب العدالة والتنمية في الحكومة المقبلة ولو من خارج رئاسة الحكومة، فوجودهم في ذلك الموقع يخدم منطق الدولة القائم ويضعف مواقع المعارضة، إذ ليس صدفة أن الانتقادات التي توجه للعدالة والتنمية لا تركز على أدائه الحكومي الضعيف ولا لعجزه عن تقديم حلول جدية للطلب الاجتماعي المرتفع والمتصاعد، بل فقط على ازدواجية الخطاب لدى أعضائه سواء تعلق الأمر بالمال العام أو بنمط العيش والاختيارات الفردية،  ببساطة، لأن الاختيارات الاقتصادية والتنموية تُصنع بعيدا عن مواقع الحكومة، كما أن صناديق الحكومة فارغة وليس بها ما يمكن تقديمه للاستجابة للمطالب التي ترتفع يوما بعد يوم وتشمل فئات اجتماعية واسعة، وهو ما يعني أن الدولة دخلت في منطق التدبير اليومي، ولاشيء يظهر في الأفق…

بكل تأكيد لبنكيران أخطاء كثيرة، لكنه مع ذلك لا يمكن أن نغفل أنه وضع كل رصيده الشخصي ورصيد حزبه لتنفيذ إملاءات المنظمات المالية الدولية، سواء فيما يتعلق بوقف التوظيف أو «إصلاح» التقاعد، أو تفكيك صندوق المقاصة أو تحرير أسعار المحروقات، وهي حزمة الشروط التي وضعها البنك الدولي على المغرب من أجل تمكينه من خط السيولة. يبقى السؤال هو، هل قام بنكيران بذلك متشبعا بمنطق رجل الدولة، أم بمنطق مطاردة الاعتراف به وبتياره السياسي الذي عاش دائما على وقع سوء فهم كبير مع البنيات العميقة للدولة، حتى أصبح إدراك ذلك الهدف هو مناط مشاركته السياسية؟ فبنكيران، وهو يواجه معارضي تلك الإجراءات القاسية، كان مدركا أنها كانت تمثل عزّ ما تطلبه الدولة، لكنها كانت تفتقد لمظلة حزبية توفر ما يكفي من التغطية في الشارع وفي الإعلام، ولم يكن غريبا أن يستثمر حزب العدالة والتنمية حضوره في مواقع التواصل الاجتماعي وفي مستويات من المجتمع، للدفاع عن تلك الإجراءات والتدابير اللاشعبية، وذلك بمنطق المواجهة الحزبية والسياسية، منتشيا بانتصاراته الانتخابية، التي في النهاية لم تمنحه قوة سياسية كافية للمساهمة في إعادة بعض من التوازن في ميزان القوى  في المجتمع والدولة. بنكيران، أيضا، كان يعرف بأن الدولة ستتدخل متى كان ذلك ضروريا للحفاظ على الاستقرار، لذلك لم يكن يولي كبير اهتمام لمخاطر انفجار الوضع الاجتماعي، وكان همّ حزب العدالة والتنمية الرئيس، هو الحفاظ على قوته الانتخابية من خلال تفقد «الماكينة»، التي لازالت قادرة على تأمين عدد محترم من الأصوات التي تمثل كتلة انتخابية ثابتة تصوت لفائدة مرشحي الحزب، بغض النظر عن موقعه وإنجازاته داخل الحكومة أو في مجالس الجماعات الترابية، وهي «ماكينة» قادرة على خلط أوراق 2021، لكنها لا تقدم ولا تؤخر في الطبيعة البنيوية لأزمة السياسة والاقتصاد والديمقراطية التي تعرفها بلادنا.

إن حالة السياسة في بلدنا، باختصار، يحق فيها ما قاله الكاردينال «دو ريتز»، من كونها مجرد «فن جني الشرف من الضرورة…». حدث ذلك مع بنكيران، ومع من سبقوه، فهل يُسعف المستقبل في تجريب الأسلوب نفسه؟

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي