حالة الصحافة الورقية والإلكترونية في المغرب.. اقتصاد سياسي بامتياز

01 مارس 2019 - 04:09

 تستقصي الدراسة تاريخ الصحافة غير الحزبية وسياقها الاقتصادي والسياسي بالمغرب، وتستكشف التوسع الهائل في حجم الأخبار التي تقدمها منذ فترة التسعينات. كما تبحث الدراسة سوق الإعلان التجاري في عمل صناعة الصحافة والصعوبات التي تواجهها عند محاولة التوسع باتجاه جمهورها.

@ عبد الفتاح بنشنَّة @ إدريس كسيكس

إصدارات تناضل وعالم إخباري محدود

ليس على المرء سوى النظر فيما تعرضه أكشاك الصحف في كبرى مدن المغرب، أو أن يزور المواقع الإخبارية الإلكترونية المغربية حتى يدرك وجود الكثير من الإصدارات المتاحة ووجود شيء من التعددية السياسية الظاهرة، وذلك بالرغم من « الخطوط الحمراء » التي يحظر المساس بها. من الثابت أن وزير الاتصالات حدد في العام 2014 نحو 488 صحيفة (شملت 15 إصدارًا حزبيًّا و171 صحيفة إقليمية « مستقلة »)، بالإضافة إلى 500 موقع إخباري إلكتروني وطني وإقليمي ومحلي. إلا أن تلك البيانات « الخام » تميل أولًا إلى إخفاء صعوبات مالية كبيرة تكابدها الصحافة المغربية حسبما هو ثابت من « معدل الموات » المرتفع للإصدارات، وتميل ثانيًا إلى انخفاض هائل في أعداد توزيع الصحف الورقية، وهي أعداد ضعيفة للغاية أصلًا في ظل سوق إعلانية تصارع من أجل البقاء. في المقابل، ارتفع عدد خدمات القراءة مدفوعة الأجر في حالات بعينها.

إن الفترة المشمولة بالبحث في هذا المقام تمتد بين عامي 2004 و2012، وهي فترة تتسم بالتفاوت في البيانات. لم يتجاوز وقت التعرض لكل وسائل الإعلام المطبوعة: من كتب وصحف.. إلخ، في 2011/2012، دقيقتين في اليوم للفئة العمرية المتراوحة بين 15 عامًا فما أكبر. وهنا، تضيف شركة التدقيق المعروفة « كيه بي إم جي » (KPMG)، في تقريرها للعام 2011، أن توزيع المطبوعات في العام 2008 لم يتجاوز 10 نسخ لكل 1000 مواطن؛ علمًا بأن المغرب يُنظر إليه في الغالب باعتباره واحدًا من الدول ذات الأغلبية العربية التي تسجل أدنى معدل لمتابعة الصحف. ويؤكد ذلك أن إجمالي مبيعات الصحف البالغ عددها 36 صحيفة في المغرب  انخفض انخفاضًا مطردًا  من 87.4 مليون نسخة إلى 61.9 مليون نسخة بين عامي 2009 و2014، وذلك وفق بيانات المكتب المغربي لمراقبة توزيع الصحف (OJD)، وهو الكيان المعني بتدقيق بيانات التوزيع. ومع ذلك، فإن الفترة بين 2004 و2008 كانت مثمرة على وجه الخصوص؛ ذلك أنها حملت زيادة قوية في عدد الصحف الإخبارية الأسبوعية (من 5 إلى 18) والمجلات الإخبارية (من 6 إلى 19) وخدمات المتابعة الإخبارية مدفوعة الأجر ( 160.13% بالنسبة للصحف الأسبوعية و 72.5% بالنسبة للمجلات). وهناك اتجاهات مماثلة معقدة في قطاع الصحف اليومية، فقد تضاعف عدد الاشتراكات المدفوعة ثلاث مرات تقريبًا بعد مطلع الألفية الحالية ليرتفع من 116.358 نسخة في 2004 إلى 300.871 نسخة في العام 2008. علاوة على ذلك، وأثناء الفترة نفسها التي شهدت تسامحًا أعلى مع الأصوات الناقدة وانفتاحًا في السوق على المؤسسات الخاصة، زاد عدد الإصدارات بنحو خمسة أضعاف؛ علمًا بأن تلك الفترة مشهودة في الذاكرة نظرًا لزيادة نسب المتابعة للإصدارات اليومية العربية المطبوعة، أي في مستهل إصدار « المساء » (2007) و »أخبار اليوم » (2009)، وذلك لأنها كانت أعوامًا بلا منافسة من قبل المواقع الإلكترونية. غير أن هذا الواقع تغيَّر في العام 2009 عندما انخفض إجمالي معدل توزيع الصحف اليومية من 250.296 نسخة في 2009 إلى 175.760 نسخة في 2014.

تشير البيانات المتاحة عن المواقع الإلكترونية الإخبارية المغربية، في أحد جانبيها، إلى أن تلك المنصات الجديدة « تمامًا » حققت نجاحًا لا مراء فيه من حيث عدد الزوار الذي يفوق المنصات المرتبطة بالأخبار المطبوعة بكثير، وهذا واقع يدعو للدهشة حقًّا في بلد تصل فيه نسبة مستخدمي الإنترنت 56.8% من الساكنة حسب بيانات العام 2014. وشهد العام 2015(27) إجراء استطلاع لعينة محددة من المواطنين غير الأميين من الفئة العمرية البالغة 15 عامًا فما أكبر، وأظهر الاستطلاع أن 67% من المستجيبين أفادوا بأنهم يقرؤون الصحافة الرقمية، وذلك في مقابل 17% فقط يقرؤون الصحافة الورقية، و26% يقرؤون الصحافة الرقمية والورقية معًا. علاوة على ذلك، يبدو أن السواد الأعظم من قراء الصحافة الإلكترونية في المغرب يختلفون اختلافًا كبيرًا عن نظرائهم من قرَّاء الصحافة الورقية؛ إذ تشير النتائج إلى غلبة العنصر النسائي (73% من النساء قلن إنهن يقرأن الصحافة الإخبارية الإلكترونية، مقابل 8% فقط للصحافة الورقية)، والأمر ذاته يشمل أيضًا الفئات العمرية الأصغر سنًّا (79% من الفئة العمرية بين 15 و24 عامًا تقرأ الصحافة الإلكترونية، مقابل 8% للصحافة الورقية). واعتبارًا من 30 من غشت 2016، أفادت « أليكسا » أن المنصات الأكثر استقبالًا للزيارات كانت المواقع الإخبارية الإلكترونية المغربية الناطقة بالعربية. ولعل أشهر تلك المنصات « هيسبريس » (Hespress)؛ إذ بلغ عدد زواره 2.5 مليون زائر يوميًّا ليحل رابعًا بعد مواقع « غوغل » و »فيسبوك » ويوتيوب ». وجاء بعده موقع « شوف تيفي » (Chouftv)، في المرتبة الخامسة، يليه موقعان متخصصان في كرة القدم ( HYPERLINK « http://elbotola.com/ » elbotola.com و HYPERLINK « http://kooora.com/ » kooora.com [التاسع والحادي عشر على التوالي]). وهناك مواقع إلكترونية عامة أخرى حازت نصيبًا من الشهرة، من بينها مثلًا موقع « Le 360 » باللغتين العربية والفرنسية (المركز الثالث عشر) والعديد من المواقع العربية الناشطة مثل « كود » (الرابع عشر)، و »اليوم 24″ (التاسع عشر)، و »فبراير » (في المركز الحادي والثلاثين) و »هبة بريس » (Hibapress) (الرابع والثلاثين).

وعلى الرغم من الزيادة المهولة في المنصات الورقية والرقمية، فإنه من المهم الإشارة إلى أن الصحفيين في المغرب لا يزالون يعانون ضعف التدريب والانتماء إلى دائرة محدودة للغاية (يوجد 2130 صحفيًّا معتمدًا من وزارة الاتصالات في 2012) تتمحور حول وسائل الإعلام الوطنية الأقرب صلة بالدوائر الرسمية؛ بل إن قرابة نصف المتخصصين المعتمدين (46.9%) يعملون في مؤسسات الإعلام السمعي البصري التابعة للدولة -سواء في التلفزة أم في الإذاعة العامة، أم في وكالة المغرب العربي للأنباء (10.28%). وخلاصة القول إنه بالرغم من وفرة الإصدارات الجديدة التي ظهرت تحت مظلة التحرير حملت صورة ظاهرية لمشهد إعلامي أكثر حرية، إلا أنها اكتست ثوب « السراب المضلل » بالنسبة لسوق اتسم بالتشرذم؛ فيما ظل احتكار الحكومة لشركات الإنتاج الإخباري الكبرى قائمًا كما هو، فاستمر دورها باعتبارها صاحب العمل الأقوى في القطاع.

هيمنة اللغة العربية والصحافة اليومية الوطنية العامة 

تتيح لنا البنية الهيكلية لقطاع الأخبار المغربي، وهو قطاع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسمات الفريدة للمشهد الوطني الاجتماعي، إمكانية التحرك بعيدًا عن نتيجة « السراب المضلل » المذكورة آنفًا. ومع ذلك، تكشف تلك البنية -أول ما تكشف- عن تناقض يمس التاريخ السياسي الوطني للمغرب: ألا وهو اللغة العربية؛ فبالرغم من أنها اللغة الأكثر قراءةً إلا أنها تظل الأكثر إدرارًا للربح من المنظور التجاري. في المقابل، تجتذب الصحافة المكتوبة بالفرنسية الحصة الأكبر من الاستثمار التجاري. لقد استغرقت العربية وقتًا طويلًا حتى ظهرت؛ لأنها كانت تخضع لقيود صارمة بدأت مع الحماية الفرنسية (التي لم تزد في ظلها الصحف العربية عن نسبة 5% في العام 1951، ثم انتقلت إلى السلطات على مر عقود عديدة بعد الاستقلال. ولعل التعارض بين اللغتين مرده، في جُلِّه، إلى بنية الفضاء العام؛ فالإصدارات الورقية كانت مخصصة لشريحة محدودة للغاية من المشهد الاجتماعي، أي الأثرياء منهم الحائزين على رأس المال الثقافي والموارد الاقتصادية، فتلك الشريحة السكانية كانت تتحدث الفرنسية لوقت طويل. أما الخصوصية المغربية في هذا الشأن فتتمثَّل في أن العربية والفرنسية (وهما اللغتان الرئيسيتان اللتان تُدرَّسان في المدارس وتُستخدمان في الصحافة الورقية والإلكترونية) ليستا اللغة الأم لمعظم الطلاب المغاربة، فاللغة الأم بالنسبة لهؤلاء هي « الدارجة » أو الأمازيغية في بعض الأحياء؛ علمًا بأن الهيمنة النهائية للعربية الفصحى -كلغة الحديث والكتابة- كانت تدريجية للغاية؛ فقد بلغت نسبة الإصدارات العربية 57.4% مقابل 42.6% بالفرنسية؛ إذ كانت شبه متكافئة في العام 1985. أما إحصاءات العام 2014 فتبين أن تلك النسبة تغيرت تغيرًا كبيرًا، إذ ارتفعت الإصدارات العربية إلى 70.9% مقارنة بنحو 19% فقط للفرنسية؛ فيما بلغت الإصدارات الجامعة بين اللغتين نسبة 6.6%، تقابلها نسبة 2.5% للغات الأخرى (الإنجليزية والإسبانية)، واقتصرت إصدارات الأمازيغية على 1% من جملة الإصدارات؛ وهنا تتجلى هيمنة العربية على المنصات الإلكترونية.

شهدت الصحافة العربية المطبوعة والإلكترونية توسعًا غير مسبوق خلال السنوات الممتدة بين تسعينات القرن الماضي ومطلع الألفية؛ فإذا نظرنا إلى الإصدارات اليومية سنجد أن اثنين منها جسَّدتا التطور الذي طال الصحافة الشعبية (بمعنى اتساع قاعدة الإقبال الشعبي عليها، وتقديمها لونًا يلقى قبولًا) حتى وإن كان معدل متابعتها أعلى في الطبقات الاجتماعية الأعلى، وذلك حسب ما كشفته مقابلة شخصية مع المدير التنفيذي السابق لجريدة « المساء » الذي يعمل حاليًّا لدى « الأخبار » (من خلال مقابلة أُجريت معه في أكتوبر 2015). تأسست جريدة « المساء » اليومية على أيدي صحفييْن ناطقين بالعربية يحظيان بمتابعة واسعة (توفيق بوعشرين ورشيد نيني) ومصرفي سابق اتخذ لنفسه مسارًا مهنيًّا جديدًا في الصحافة (سمير شوقي)، فيما جاء جُلُّ التمويل من المخرج والمنتج السينمائي محمد العسلي. أما صحيفة « الأخبار » اليومية فتأسست على يد رشيد نيني بعد مغادرة « المساء ». نجحت كلتا الصحيفتين خلال عامين في بناء قاعدة معتبرة من المتابعين والقرَّاء (باعت « المساء » 114.458 نسخة في 2008، وباعت « الأخبار » 60 ألف نسخة وفق إحصاءات العام 2014). ويُعزى ذلك النجاح في جانب منه إلى وفرة قرَّاء العمود اليومي « شوف تشوف » لصاحبه رشيد نيني الذي يكتبه بمزيج من العربية الفصحى واللهجة المغربية؛ إذ أدى هذا العمود إلى زيادة المبيعات في أول يوم شارك فيه بصحيفة « الصباح »، ثم استمر الكاتب في إصدارين آخرين شارك في إنشائهما وتطويرهما، وهما: « المساء » و »الأخبار ». استغل الكاتب عموده لشجب ممارسات الفساد والظلم الاجتماعي، بما في ذلك ما يطول الدوائر الحكومية، فضلًا عن نشر العديد من حالات « السبق الصحفي »، فنال من كل ذلك حظوة كبيرة. وبالرغم من كون رشيد نيني ظاهرة حقيقة، إلا أنه يندرج ضمن سلسلة ممتدة من كتَّاب الرأي المشاهير في الصحافة العربية ممن اجتذبوا آلاف القرَّاء إلى صفحاتهم في أوقات عديدة. بيد أن الصحافة الناطقة بالفرنسية تفتقر إلى هذه الظاهرة؛ فالصحيفة اليومية « الرسمية » الأكبر، « لو ماتان » (Le Matin) والصحيفة المتخصصة « ليكونوميست » تحظيان باستقرار نسبي منذ مطلع الألفية بمعدل توزيع ناهز 20 ألف نسخة للأولى، وما بين 16 إلى 18 ألفًا للثانية.

ثمة مبدأ بنيوي آخر في عالم الصحافة المغربية، وهو مرتبط بهيمنة الصحافة الوطنية على ما سواها؛ فبالرغم من وجود إصدارات إقليمية (تمثل نحو 23.7% من الإصدارات الورقية في 2005) إلا أنها تعاني من إشكالية الاستمرار، فيما يظل القطاع -والحال هذه- متركزًا بشدة في العاصمة الاقتصادية للبلاد، الدار البيضاء، تليها العاصمة السياسية، الرباط، وإنْ بدرجة أقل. أما نسبة الصحفيين العاملين في الصحافة الإقليمية الحاملين بطاقة صحفية مهنية سارية فلم تتجاوز نسبتهم 5.4% في العام 2005 (حسب التقرير السنوي الصادر بشأن « الصحافة الورقية ووسائل الإعلام العامة السمعية البصرية » عن وزارة الاتصالات في العام 2005). وبالمثل، يستند قطاع الصحافة المغربي بالأساس إلى الصحف اليومية، مع محدودية نسبية في توزيع المجلات. وهناك إصداران يصدران بالفرنسية يُعَدَّان رمزي « الصحافة المستقلة »، لكنهما لم يحظيا البتة بنسب توزيع كبيرة، وهما: صحيفة « لو جورنال » (Le Jounral) التي تجاوزت حاجز 20 ألف نسخة أسبوعيًّا مرتين فقط في تاريخها (في 1999 و2000)، و »تيل كيل » (TelQuel) التي اعتادت يومًا أن تصل إلى متوسط أسبوعي قوامه 20.436 نسخة في 2005؛ ثم آلت إلى تراجعٍ تدريجي منذ العام 2009 حتى وصلت مبيعاتها إلى 10.376 نسخة فقط أسبوعيًّا في 2014.

من « متجر البقالة » إلى تكتل الصحافة 

من التحديات الماثلة أمام الإحاطة بفهم كامل لقطاع الصحافة في المغرب، من وجهة نظر الباحث، هو التحدي المرتبط بتحليل حملة الأسهم، ذلك بأن تحديد ماهية حملة الأسهم في أي إصدار معين يشكِّل العقبة الأولى إما لأن شركة النشر ليس لها كيان قانوني (كما هي الحال في العديد من المواقع الإخبارية الإلكترونية) وإما لأنها قد تكون من إنشاء « السلطات » أو تلقى دعمًا في السر من سياسي أو مسؤول رفيع أو رجل أعمال. وهنا، تهدف الإحصاءات التي نشرها وزير الاتصالات إلى تأكيد الطابع « التعددي » و »مراجعة الحال الراهنة للجهود المبذولة لتعزيز حرية الصحافة في المغرب »، لكن تلك الإحصاءات لم تقدم أية معلومات بشأن الاتجاهات التحريرية المتبعة أو الخصائص المتنوعة للإصدارات الصحفية بما يعين على تكوين فهم شامل لقطاع الصحافة في المغرب؛ ومن ذلك البنية الاقتصادية للقطاع، أو طبيعة الهياكل التحريرية المتنوعة لكل الإصدارات، فضلًا عن ماهية المالكين لتلك الإصدارات أو العلاقة بين المالكين والسلطات السياسية والاقتصادية. ورغم ذلك، فإن العقبة الثانية تتجلى في الوقوف على المسارات المهنية للمستثمرين؛ فمع أننا نسلِّم بأن الاستقصاءات الميدانية لم تكن شاملة، إلا أنها أسهمت في رصد العديد من المعلومات المهمة عن المستثمرين في عالم الصحافة.

*مركز الجزيرة للدراسات

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي