وصية الجابري!

07 مايو 2019 - 14:52

الأسبوع الماضي، مرت الذكرى التاسعة لرحيل أحد أهم المفكرين العرب في العصر الحديث: محمد عابد الجابري، الفيلسوف الذي خسرناه في ماي 2010، بعد حياة عريضة كرسها لدراسة «العقل العربي» وفهم بنيته وطريقة اشتغاله، وترك لنا مكتبة من المؤلفات التي تغوص في التراث كي تأخذ منه ما يصلح للمستقبل. صاحب «نحن والتراث» كان مثقفا من طينة نادرة، علمنا كثيرا من الدروس، أهمها أن الابتعاد عن السلطة وإغراءاتها لا يمكن إلا أن يفيد الفكر والنقد والتحليل، لأنه يحرر الكاتب من كل الرقابات، وعلى رأسها الرقابة الذاتية.

عندما شيع المفكر، الذي تخطت شهرته الحدود بعد ظهر الثلاثاء 4 ماي 2010، كان لافتا أن يحضر جنازته مستشار الملك (محمد معتصم) وكثير من وزراء الحكومة، وأن تتلقى أسرته رسالة تعزية من القصر، رغم أن الراحل لم يسبق له أن حظي بأي تتويج رسمي!

مفارقة تستحق التأمل، لأن مسار شخص مثل صاحب «بنية العقل العربي»، لا يمكن فهمه بمعزل عن العلاقة المركبة بين الفكري والسياسي، بين المثقف والسلطة، بين الفكرة والفعل.

كانت الجنازة امتحانا عسيرا لصحافيي «لاماپ»، الذين فتشوا طويلا عن أثر لأي اعتراف رسمي بمحمد عابد الجابري لكي يدبجوا نعيا يليق بالمقام، لكنهم لم يعثروا على ما يشفي الغليل، فاضطروا إلى الانقضاض على «ميدالية ابن سينا» التي سلمت للمفكر من طرف اليونسكو عام 2006، وأكدوا أن ذلك جرى «في حفل تكريم شاركت فيه الحكومة المغربية»…

لم يحصل الجابري على جائزة المغرب للكتاب التي تسلمها وزارة الثقافة ولو مرة واحدة، ولا على أي من الأوسمة الرسمية التي توزع في الأعياد الوطنية، كما لم يسبق له أن تقلد منصبا حكوميا أو استشاريا، رغم وصول رفاقه القدامى إلى الحكم وعلاقته الوطيدة بعبدالرحمان اليوسفي، وعدد ممن قلّبوا مؤخراتهم بين كراسي الوزارات باسم «الاتحاد الاشتراكي»، طوال أكثر من عشر سنوات. حتى «أكاديمية المملكة» ظل يرفض عضويتها بأدب الكبار. كما يعرف الكثيرون أن مؤلف «نقد العقل العربي»، ظل يرفض جائزة المغرب للكتاب، دون أن يعطي لموقفه أي ضوضاء أو جلبة. كان يجنب أصدقاءه إحراجا مماثلا لذلك الذي سببه رفض أحمد بوزفور لهذه الجائزة، التي تحولت إلى «مونتيف» من كثرة اللغط الذي تثيره كل مرة!

الحقيقة أن الراحل لم يكن يحتاج إلى جوائز، بل كانت الجوائز تحتاج إليه، وكان يرجو من أصحابها أن يتركوه وشأنه، رفقة أفكاره، بعيدا عن النياشين والأوسمة. الجابري كان كبرياء المغرب أمام المشرق، أكبر تجسيد لما سمّاه عبدالله كنون بـ»النبوغ المغربي». بفضله تحول المغرب إلى «رأس» لهذا الوطن العربي المترهل. رأس مرفوعة، أثارت كثيرا من الجدل والغيرة، لدى المفكرين العرب، الذين لم يفهموا أن الشمس يمكن أن تشرق أيضا من المغرب. وفي وقت اختار كثير من رفاقه القدامى تربية الأبقار والخيول و»الكروش»، بعدما وزعت الغنائم على حزب «القوات الشعبية»، ظل الجابري وفيا لهواية «تربية الأفكار». ومن المفارقات الأخرى أن يضطر الراحل إلى توقيف مجلته «فكر ونقد» لأسباب مالية، في الوقت الذي كانت فيه وزارة الثقافة بين يدي حزب «الاتحاد الاشتراكي»!

كان يمكن أن يصير الجابري وزيرا أو سفيرا، مثل زملائه من مثقفي «الاتحاد الاشتراكي»، لكنه نجا من الكرسي بأعجوبة. طوال مساره الحافل، احتفظ ب»المسافة الضرورية» مع الدوائر الرسمية. لكن، رغم انسحابه الهادئ من المعترك السياسي، يبدو أن ذلك الاتحادي العنيد، الذي لا يثق في «البحر والعافية والمخزن»، لم يفارقه يوما. انسحب من السياسة، في صيغتها التنظيمية المباشرة، لكن الحزب ظل ملتصقا به كالظل.

لم يستطع الراحل أن يغادر الخانة التي وضع فيها نفسه في بداية مساره الفكري، بقي مثقف «الاتحاد الاشتراكي» إلى آخر لحظة، وظلت جريدة الحزب لا تفوت أي فرصة كي تنشر صورته على صفحتها الأولى جنب صورة عمر بن جلون، وكلاهما لعب دورا كبيرا في صياغة «التقرير الإيديولوجي» الشهير، الذي حوّل حزب «القوات الشعبية» من تنظيم ملتبس، يخترقه الثوريون والانقلابيون والبعثيون، إلى حزب اشتراكي ديمقراطي.

الجابري ترك، أيضا، وصية سياسية ثمينة اسمها «الكتلة التاريخية»، ما أحوجنا إليها اليوم!

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

محمد رفيق الصنهاجي.... منذ 4 سنوات

الجابري امازيغي من امازيغ فيكيك وليس عربي..... اغلب المفكرين الاقحاح من العجم وليسوا من العرب... العرب بركة عليهم النشاط وللا ومالي والبحث عن الغنائم المادية والسلطة والتسلط في مجتمعاتهم... هذه هي كنه نفسيتهم وبناء شخصيتهم......حتى العروي الذي يطبلون له فان جوهر كتاباته اشبه بالكلمات المتقاطعة وفخخ الشهرة والغموض والتدبير عن مكانة ومقام لن يخسر فيه شيء مع السلطة واصحاب النعمة...

التالي