البلاغ الذي أصدره المجلس الحكومي واتهم فيه جماعة العدل والإحسان بكونها من وراء هذا الملف، حرك أفكارا كثيرة حول شكل نجاعة شكل التعاطي مع العدل والإحسان.
مؤكد أن القرار ليس حكوميا، فبعض الوزراء كانوا ضد ذكر العدل والإحسان بالاسم في البلاغ، بل رئيس الحكومة نفسه، حسب إفادات إعلامية، لم يكن على علم بقرار توقيف أساتذة للطب على خلفية الاحتقان، بل، ربما، لم يكن على علم بدخول الداخلية على الخط، ومباشرتها لحوار مع آباء الطلبة، لوضعهم في صورة روايتها عن الاحتقان ودور أطراف سياسية فيها.
لا يهم أن نعرف هل القرار حكومي أم غير حكومي، فالصيغة التي ورد بها كافية، وتنبِئ عن مأزق كبير في العلاقة بين التعاطي الأمني والتعاطي السياسي، وهي بالمناسبة ليست المرة الأولى التي يتفجر فيها هذا التوتر، فقد سبق لوزارة الداخلية أن أعدت تقريرا عن حَراك الريف، اتهمت فيه قادة الحراك بالانفصال، وتورطت أحزاب في مسايرة هذا التعاطي قبل أن يتم الاستدراك، والتأكيد على أن طبيعة الحَراك مطلبية، وليست انفصالية.
البعض ذهب إلى أن اتهام الجماعة هو إقرار بقوة الجماعة وعجز السلطة عن مقاومة تكتيكاتها السياسية، والبعض الآخر انشغل بمواقف تستنكر تورط العدالة والتنمية في استعداء السلطة على العدل والإحسان، وتعميق التوتر بين الإسلاميين.
في بداية العهد الجديد، بصمت الرؤية الملكية، على استراتيجية ذكية في التعاطي مع العدل والإحسان: طي صفحة الماضي، ورفع الإقامة الجبرية على الشيخ عبدالسلام ياسين، رحمه الله، وتجنب الانفعال في التعامل مع مبادرات للجماعة لم تكن مناسبة في زمنها ومضمونها (رسالة إلى من يهمه الأمر)، مع تعميق تجربة الاندماج السياسي للإسلاميين، وإرساء تجربة الإنصاف والمصالحة بحمولتها الحقوقية والاجتماعية.
للأسف، لم ينتبه المراقبون لآثار هذه الاستراتيجية، فالمعطيات الداخلية التي تخص نسبة الاستقطاب لدى الجماعة، فضلا عن إشعاعها، كانت محدودة، وربما، مضللة بسبب تضخيم أدوار الجماعة وعدم الانتباه للحراك الداخلي، وما يرتبط بتنامي نقاشات قوية مدعومة بتعدد الأجيال تتساءل عن الأفق، وتطلب أهدافا قابلة للتحقيق في شروط الزمن، لا سيما بعد تسيّد منطق الرؤى والمنامات داخل الجماعة، وبروز أزمة عدم تحقق رؤية 2006.
كان المفروض، أن تستمر هذه المقاربة، لا سيما وأنها تسببت في بروز تحولات داخل الجماعة، تؤشر على اقترابها من شكل تعاطي الحركات الإسلامية المندمجة سياسيا، فالجماعة صار لها مركز أبحاث، وتصدر تقارير سنوية، وتتابع السياسات العمومية، ولو بشكل غير مفصل، ومخرجات المجلس القطري للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان تنعطف للغة النقد الذاتي، وقضايا التدبير العام، وتبني لغة العمل المشترك، ومحاولات لتجنب العموميات، والاستناد إلى لغة الأرقام والمؤشرات.
يقينا لم تكن هذه التحولات دالّة على تحول في الخط السياسي، لكنها تشهد على ديناميات داخلية مهمة، وما حدث من سعيها إلى استثمار الربيع العربي وتحويله للحظة حيوية للتبشير بصدق موعودها السياسي، لا يلغي هذه الخلاصة، بل يؤكدها، فآثار انسحابها من الحراك، وما تلاه من انكفاء بعد موت الشيخ عبدالسلام ياسين، زاد من تعميق الديناميات الداخلية، وتحويلها أحيانا إلى منطقة توتر تعدى التقدير السياسي إلى الخطوط التربوية الاستراتيجية، فالجماعة لم تفقد شيخها فقط، وإنما وضعت مبدأ “الصحبة والجماعة” بدلالتها الصوفية في المحك، فالجماعة تحتاج شيخا مصحوبا، ولا يغني المبدأ عن استعارة مبدأ رفضه الشيخ ياسين نفسه، يستعين بمفهوم “الصحبة في الجماعة».
المشكلة، أنه بدلا من أن متابعة هذه الديناميات، وقراءة سلوك العدل والإحسان المستثمر في الاحتقانات، على أساس أنه علامة تنفيس عن أزمة في الداخل، وبدلا من رفع ولو نسبي لسياسة التضييق، ليكون ذلك سببا في توسيع هوامش الاعتدال داخلها، يتم السقوط في سياسة تشميع البيوت، والتوقيف التعسفي للأشخاص عن وظائفهم، واتهام الجماعة بشكل علني بالمسؤولية عن احتقانات أكبر من طاقتها، والتخلي بذلك عن الأفكار الناجعة التي بصمت بداية عهد الملك في التعاطي مع الجماعة.
البحث العلمي المتأني، والاشتباك مع التحولات التي تعرفها الجماعة، وشكل تعاطي السلطة معها، يرسخ فكرة إعاقة السلطة لتحولات الجماعة، وتعسير مهمة توسيع هوامش الاعتدال داخلها، وأن استمرار التعاطي نفسه، سيفقد السلطة القدرة على إضعاف الجماعة، وربما، يضطرها للمحظور (المنع)، الذي سيزيد من قوتها، وسيدفعها للاستثمار من جديد في مظلوميتها، كما فعلت في السابق حين كثفت من حركية استقطابها وصارت أقوى تكتل تنظيمي في المشهد.