لم تعرف محاكمة سياسية في تاريخ المغرب إطلاقَ عدد كبير ومتنوع من البالونات الحرارية، مثلما يحدث في قضية الصحافي توفيق بوعشرين. الجهة التي تحرك هذا الملف، وبعدما فشلت، فشلا ذريعا، في إقناع المغاربة والمنتظم الدولي بأن القضية التي يحاكم فيها هذا الصحافي هي قضية تتعلق باعتداء رجل على نساء، لجأت إلى إطلاق بعض أصحاب البذلة السوداء والمسارات الأشد سوادا، للقيام بدور مماثل للذي تقوم به البالونات الهوائية التي تطلقها الطائرات الحربية لخداع الصواريخ.
إن بالونات السلطة تشتغل بمنطق: إذا فشلت في جعل الرأي العام الوطني والدولي يصدق ما تقوله، فحاول النجاح في جعل رأيه مشوشا حول ما يقوله الآخرون. ولعل واحدا من تلك البالونات الهوائية التي نجحت، إلى حد ما، في تضليل بعض المنابر الإعلامية، بما فيها منابر غير محسوبة على السلطة، هو دفعها إلى الحديث عن وجود جهتين متعارضتين في هذا الملف؛ الجهة التي تحركها السلطة، مقابل «لجنة الحقيقة والعدالة في قضية الصحافي توفيق بوعشرين». وهذا خطأ كبير لا يقع فيه حتى الصحافي المبتدئ النبيه؛ ببساطة لأن لجنة الحقيقة والعدالة تضم أعضاءً من كل القوى الحية في البلاد، بكل تلاوينها واختلافاتها وتناقضاتها، كما تقاسمها الرأي كبرى المنظمات الحقوقية الدولية. فهل يعقل –مثلا- أن يجتمع منتمون إلى العدل والإحسان والتقدم والاشتراكية وحزب الاستقلال وفدرالية اليسار والعدالة والتنمية والنهج الديمقراطي والبديل الحضاري، ومجموعة العمل المعنية بالاعتقال التعسفي التابعة للأمم المتحدة، وعشرات المنظمات الحقوقية من المغرب وخارجه، وكبار المثقفين والأكاديميين… للتواطؤ ضد نساء مغتصبات، وتوفير الحماية لشخص يتاجر بهن؟! هل كان ممكنا أن يقولوا إن توفيق بوعشرين معتقل بشكل تعسفي، لو لم يكونوا موقنين بأنه، بالفعل، معتقل خارج القانون؟
ثاني بالون حراري فرقعته الجهة التي تحرك هذا الملف، هو ما قيل عن رسالة وجهتها مجموعة العمل المعنية بالاعتقال التعسفي إلى بعض النساء. حكاية هذه الرسالة التي عقد لها أصحاب البذلة السوداء والمسار الأشد سوادا، ندوة صحافية، وهلل لها إعلام السلطة، تشبه حكاية نساء يسألن عن حمام عمومي، فأشار عليهن أشخاص قليلو المروءة والحياء إلى حمام للرجال، وعندما هممن بدخوله أوقفهن مسير الحمام باحترام، واعتذر إليهن عما لحق بهن من أذى بسبب الأشخاص قليلي المروءة والحياء، ثم قال لهن بكل أدب: «لقد طرقتن الباب الخطأ». إن الجهة التي جرى تسفير بعض النساء إليها لا تنظر في موضوع اغتصاب النساء أو الاتجار بهن، بل تختص، وكما هو اسمها، بالنظر في قضايا الاعتقال التعسفي الذي تمارسه الدول على الأفراد. وقد قالت مجموعة العمل إن توفيق بوعشرين معتقل تعسفا طبقا للصنف الأول والصنف الثاني والصنف الثالث. من جهة أخرى، فإن موضوع بوعشرين لم يعد في يد مجموعة العمل المعنية بالاعتقال التعسفي، بعدما جرى تعيين مقرر أممي له، هو المقرر الخاص بحرية التعبير. وبالتالي، فقضية الصحافي توفـيق بوعـشرين أصبـحت قضيـة حرية تعبير.
هنالك أمر مهم يجب أن ننتبه إليه. هذه الحفنة من المحامين التي سفَّرتها الجهة التي تحرك هذا الملف، رفقة بعض النساء الممسوكات من أعناقهن، إلى جنيف، هي نفسها التي سبق أن وصف محاموها الرأي الأممي المطالب بالإفراج عن بوعشرين بـ«الكواغط»، وطالبوا المحكمة بإتلافه ضمن ما تتلفه من مخدرات محجوزة، واتهموا مجموعة العمل المعنية بالاعتقال التعسفي التابعة للأمم المتحدة بتلقي الرشاوى، وقالوا إن سيدة من أصل جزائري هي التي كانت وراء إصدار رأيها المطالب بإطلاق سراح بوعشرين، وطالبوا باعتقال زملائهم المحامين الذين لجؤوا إلى مجموعة العمل الأممية، بل وصلت بهم الجسارة إلى أن طالبوا الأمين العام للأمم المتحدة بطرد خبراء اللجنة الأممية! هؤلاء المحامون هم الذين عادوا، الآن، يهللون لرسالة صادرة عن مجموعة العمل الدولية نفسها، قالت لبعض النساء المشتكيات اللواتي جرى تسفيرهن إلى جنيف: « إنني أتفهم معاناتكن، لكنكن طرقتن الباب الخطأ ». والحقيقة أن من تسبب في معاناة هؤلاء النساء، هو من قرر، بانتقائية مفضوحة، عرض الفيديوهات المنسوبة إلى بعضهن واستثناء أخريات من ذلك، وهو من سفّرهن إلى جنيف وأسكنهن في أفخم الفنادق، متناسيا أنه أسس تهمة الاتجار بالبشر على الفقر والعوز اللذين قال إنهن يعانينهما، وهو من يصرف الملايين لتوكيل (بالمعنيين) هذا النوع من المحامين للدفاع عنهن.
إن قضية الصحافي توفيق بوعشرين دخلت، بعد صدور قرار مجموعة العمل المعنية بالاعتقال التعسفي التابعة للأمم المتحدة، إلى منعطف كبير، إذ اتخذت طابعها السياسي الفعلي، بعدما كان يراد تصويرها قضية جنائية لا جوانب سياسية لها، وأن الأطراف هم بوعشرين، من جهة، ونساء ضحايا مغلوبات على أمرهن من جهة أخرى. لقد أصبحت القضية، الآن، سياسية، بين السلطات المغربية، من جهة، والصحافي توفيق بوعشرين، من جهة أخرى. وهو ما جعل لجنة الحقيقة والعدالة تعقد ندوتها الأخيرة تحت عنوان: «قضية الصحافي بوعشرين قضية دولة»، لذلك، فإن إطلاق المزيد من البالونات الحرارية لا يزيـد الجوهر السياسي لاعتقال بوعشرين إلا تـأكيدا.