وأنا أتابع التصريحات المتناسلة بعد صدور بيان ستة من معتقلي حراك الريف، يطالبون فيه بإسقاط جنسيتهم، تذكرت رواية السورية حميدة نعنع: «الوطن في العينين»، رواية كانت قد صدرت نهاية السبعينيات، تحكي عن تمرد فتاة على المواضعات، مواضعات المجتمع والحزب والفصيل المسلح الذي انتمت إليه، كانت «نادية» في انتقالاتها «الثورية» تُصدم في النهاية بتجذر ما هو سلفي في سلوك وتفكير من كانت تعتبرهم بديلا ثوريا، فكل فكرة ثورية في نشأتها، تتحول في مراحل متقدمة إلى كابح، حين يتم تحنيطها في مرجع غير قابل للمراجعة والنقد، حتى الأشخاص الذين أحدثوا انزياحات في واقعهم الجامد، يحولهم «الورثة» إلى آلهة لا يجوز الخروج عن النص الذي كتبوه. غير أن هذا التقديس للنصوص والرموز السابقة، قد لا يكون بسبب الوفاء، وإنما يخفي نيات التبرير، أو عجزا عن مسايرة التحولات، وقد يكون سلاحا في مواجهة «الجديد»، الذي يعتقد كهنة المعبد أنه يهدد ما يعتقدون أنهم حفظوه باسمهم… لذلك، تصرخ نادية في وجههم: «أقول لهم: تحولتم إلى مجموعة حكام تحلمون بالمناصب والسيارات الفارهة.. أقول لهم: الحزب الذي رسمناه في مخيلتنا لا علاقة لكم به.. أقول لكم: لا تتحدثوا عن الشعب، الشعب بعيد عنكم.. يهزؤون بي، ويمضون، يصدرون البيانات، يملؤون جدران المدينة أكاذيب، أرى الهوة تفتح فمها لابتلاعنا، أكتب عن عزلتهم، عن شكهم بالجماهير، عن الأخطاء التي ترتكب كل يوم، تنتصب الجدران بيننا.. يضيق بي الرفاق، وأضيق بهم».
توصلت برسائل كثيرة يستفسر أصحابها عن موقفي من بلاغ المعتقلين الستة، وفي الغالب كنت أجيب بأنه يجب احترام قرارهم، وهي مناسبة تذكرت فيها قول عابد الجابري، حين سُئل في ندوة عن موقفه من أمر كان صرح به الشيخ ياسين، وكان حينها تحت الإقامة الإجبارية، فأجاب: «ليس من المروءة أن أصرح بموقف من أمر كهذا، لا يملك صاحبه حق الرد عليّ، لأنه محروم من حريته».
تذكرت هذا الموقف النبيل، وأنا أرى تهافت التهافت في العنتريات الوطنجية التي امتطاها البعض، وقد انطلقت ألسنتهم بعد عقال، وأنا أرى بؤس إزعاج موتى في راحتهم الأبدية، لتوظيفهم في مقارنات بليدة، لا تسمن في سوق الحجاج ولا تخلف غير العجاج.
ومن منطلق حقوقي محض في روحه، لم ولن أخوض في مواقف أي معتقل رأي، مادامت تدخل في نطاق حقه في الاحتجاج، وما دام ما يطالب به لا يخرج عن الحقوق التي تكفلها له المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ولذلك، رفضت قبلا إعطاء رأي في مقاطعة المعتقلين لجلسات المرحلة الاستئنافية، ولم أكن أرى من النبل أن يخوض المرء في مبادرات محرومين من الحرية، وهو يحتسي قهوة أو نبيذا، فوق أريكة مريحة بالرباط أو بامستردام، بالحسيمة أو دوسلدوف، إلا ما تعلق بالإقدام على إضرابات عن الطعام، فيكون التدخل قياما بواجب الدفاع عن الحق في الحياة، وليس تواطؤا مع «المخزن» لتوقيف معركة نضالية، كما يقول بعض الموتورين الذين اكتشفوا النضال حين أمنوا دفع تكلفته. لقد جرت مياه كثيرة تحت جسور القداسة والثوابت والأعراف، ولا يصح قياس شاهد تمثلات الحاضر على غائب مواضعات الماضي، فما كان يعتبر مكروها في ماضي الاحتجاجات، قد يصبح من المعلوم بالضرورة في حاضرها، لذا لا يصح إخراج ورقة: هذا ما وجدنا عليه آباءنا، وإنا على آثارهم لمقتدون.. تلك أبوية وسلفية نضالية، فكما لم يطالب أي معتقل في أزمنة الرصاص بإسقاط جنسيته، كذلك، لم يحرق أي مناضل جسده احتجاجا، ولم تتوجه مسيرة نحو الحدود في هجرة جماعية للوطن في الماضي، على سبيل المثال لا الحصر، أي إننا بإزاء تعبيرات احتجاجية جديدة، تحمل تمثلات مغايرة لمعنى الانتماء، وهو ما لا يتقبله العقل السلفي المقدس لحقيقة جوهرية، يتوهم حدوثها في الماضي، وصلاحيتها العابرة لكل الأزمنة.
لقد تناسى السرفاتيون الجدد، أن أبراهام حين كان يطالب باسترجاع جنسيته المغربية، فلكي يفضح جريمة اعتباره غير مغربي من طرف النظام، والمعادل الموضوعي لهذه الخطوة في حراك الريف، هو مسيرة: نحن لسنا انفصاليين.. التي كانت مناسبة لفتح نقاش عمومي حول المشترك وخصوصيات الجهات التاريخية للبلد، أما المطالبة بإسقاط الجنسية في بلاغ المعتقلين الستة، فهو حديث عن أفق آخر، أفق التعاقدات بين الدولة والمواطنين بمقتضى رابط الجنسية، هو حديث عن إخلال الدولة بواجباتها في حماية أمن المواطنين وسلامتهم الجسدية، وإحقاق العدل والكرامة، وتوفير شروط العيش الكريم، لمن قرأ البيان بعين لا تغض البصيرة. قد يختلف بعض المتضامنين مع المعتقلين حول هذه الخطوة، وهو اختلاف في التقدير وليس في الجوهر، مما هو محمود، ولكن الأكيد أن على من يزايد على وطنيتهم أن يخجل. وللأسف، عوض أن نركز على مطلب إطلاق سراح هؤلاء المعتقلين جورا، ألفينا أنفسنا بين كماشتي من يدافع عن الظلم متدثرين بالشوفينية الوطنجية، ومن يركب من موتوري ادعاءات جمهورية فارغة على بيان هو نقيض لمزاعمهم، كما ركبوا قبلا على معاناة عائلات ومعتقلين ومنطقة وساكنتها.
في مقطع من رواية «الوطن في العينين» نقرأ: «تذكرت أن المرء ثوري لأنه يحب الحياة»..