لطالما سفه الذين لا يحبون كرة القدم هذه الرياضة بالقولة المشهورة: «الكرة غير جلدة عامرة بالبرد». تطورت اللعبةمن مجرد تسلية لتزجية الوقت، لتصل إلى صناعة قائمة الذات برقم معاملات خيالية، وبمتدخلين من عوالم: الإشهاروالتسويق والرهانات، وشركات الألبسة الرياضية، والنقل التلفزيوني، والتأمينات، والاتجار في «أرجل البشر»… في الدول السلطوية، رغم أن رياح رسملة كرة القدم قد وصلتها، إلا أنها بيّأتها وفق مواضعات بنيتها الاستبدادية،كما بيّأت كل ما وصلها أو فرض عليها من منتجات الحداثة والليبرالية، حتى غدت التنافسية شكلية في مظهرها،واحتكارية في عمقها، وأضحى فتح الأسواق مشروطا بحماية مسبقة لمصالح أوليغارشيات متنفذة.. هي ليبراليةاقتصادية مراقبة بسلط فوق–دولتية، تعيد إنتاج أعلى الهرم بالمواصفات نفسها الموروثة عن المرحلة الاستعمارية. وفيمثل هذه المناخات، لم تكن الدولة السلطوية ما بعد الاستعمارية لتفرط في لعبة شعبية مثل كرة القدم، ففي الشكل هيخاضعة لجهاز تنفيذي دولي (الفيفا)، من حيث القوانين الخاصة بالمباريات، أو الانتقالات، أو حقوق اللاعبين، أوحسم النزاعات أمام «الطاس»، وهي محكمة دولية فوق المحاكم الوطنية، وليست جزءا من أي بنية قضائية تابعةللأمم المتحدة أو مجلس أمنها، إنها إمبراطورية الفيفا التي لا تعترف بالسيادة الوطنية في مجال القضاء، الذي هوالرمز الأول للسيادة.. لكن هذا الرضوخ لقضاء الفيفا يوازيه رضوخ لقدر السلطوية، كذلك، (المعبر عنه بالمخزن فيحالتنا المغربية).. ولأن الفيفا هي وكر من أوكار الفساد ومراكمة الثروات على حساب القيم الرياضية، فهي بدورها لاتبالي كثيرا بأي نزوع لدى أي دولة للتحكم في كواليس اللعبة وطنيا، وجعلها من أدوات الإخضاع، والإلغاء، وتغذيةالشوفينيات الوطنية، التي تسند الاستبداد، مادامت هذه الدولة لا تتطاول على اختصاصات الفيفا ومصالحها، فيالمغرب، كان الحسن الثاني يصنع المطر والشمس والوحل والعشب في كرة القدم الوطنية، يختار مدرب الفريقالوطني، ورئيس الجامعة، وخطة لعب المنتخب، وبرمجة المباريات على مقتضى أجنداته ومزاجه، وفرض رجالاتهوأجهزته على الأندية، كان الجيش نادي الجنرالات، والرجاء ملحقة لحزب الدولة منذ الثمانينيات بعد أن انتزعها منالنقابة، والوداد تتوارثه البورجوازية المسماة وطنية، والكوكب المراكشي فريق الأمن، ونهضة سطات مقاطعة منمقاطعات الداخلية، وكان هناك فريق للقوات المساعدة في بنسليمان تمت «صحرنته»، فأصبح اسمه: شبابالمسيرة، وحتى توزيع الفرق بين القسم الأول وباقي الأقسام كان خاضعا لخريطة المغرب النافع والمغرب غير النافع،أو مغرب سيدنا ومغرب مساخيط سيدنا. لم يتغير الشيء الكثير مع وصول محمد السادس للعرش، تراجع اهتمامالقصر بهذه الرياضة، ولعل الأمر غالبا مرتبط بهوى الملك الرياضي، الذي، ربما، لا تستهويه لعبة الأرجل، حتى إنه لميعد يحضر نهايات كأس العرش، التي كانت عند الحسن الثاني فرض عين، ولكن ظل التحكم في اللعبة قائما، فلمتكن الدولة العميقة لتسمح بانفلات الخيوط من يدها في مجال الرياضة الأكثر شعبية، والتي يعشقها المتدينون،والليبراليون، والشيوعيون، والمثليون، والنباتيون، وحتى الوهابيون، والنسوانيات، والأقليات الدينية، وعبدة الشيطان،والمشرملون، والحقوقيون.. فبعد دفع جنرال الحسن الثاني القوي حسني بنسليمان للاستقالة من رئاسة جامعةالكرة، تسلمها الفاسي الفهري المقرب من القصر، ورئيس المكتب الوطني للماء والكهرباء، وأخ المستشار الملكي فيالخارجية، وزوج وزيرة الصحة، كان بروفايلا مخزنيا تقليديا سليل العائلات الفاسية والحركة الوطنية المحافظة، وكماتم إدماج نخب محسوبة على الهامش في عملية إعادة تدوير النخب السياسية، خلفه فوزي لقجع محمولا على الجرارأولا، قبل أن تلتقطه الحمامة بعد عملية حصاد «حب وتبن».. نعم، لم تعد التدخلات سافرة، كما كان يفعل لحسنالدليمي، أخ الجنرال لصالح اتحاد سيدي قاسم، أو إدريس البصري نصرة للنهضة السطاتية، أو المديوري من أجلالكوكب، وقس على ذلك.. فكما أصبح التحكم في مقابلات السياسة تحكما ناعما، كذلك، هو التحكم في مبارياتالكرة «لايت».
في الأسبوع المقبل حديث عن كيف أسقطت الألتراس مقولة: «الكرة جلدة عامرة غير بالريح».